الفاشر تحت الحصار.. المدينة التي تختنق ببطء
في قلب إقليم دارفور، تقف مدينة الفاشر اليوم شاهدة على واحدة من أقسى المآسي الإنسانية في السودان الحديث. فبعد أكثر من عام على اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبحت المدينة المحاصرة رمزًا لمعاناة المدنيين وسط حرب لا تفرّق بين جندي ومدني، وبين مدرسة ومستشفى.
ومنذ شهور طويلة، تُحاصر الفاشر من جميع الجهات، لتتحول إلى جزيرة معزولة عن العالم الخارجي. لا طعام كافٍ، ولا دواء، ولا ممرات آمنة. الحياة هناك تُدار على إيقاع الخوف، والجوع، وانتظار المجهول.
مدينة تحت الحصار

الحصار المفروض على الفاشر لم يكن مجرد تطويق عسكري، بل أصبح وسيلة خنق متعمد لمدنيين يفوق عددهم نصف مليون شخص. أُغلقت الطرق المؤدية إلى المدينة، وتوقفت القوافل الإنسانية عن الوصول، وأصبحت المواد الغذائية نادرة لدرجة أن أسعار الخبز والحبوب تضاعفت عشرات المرات.
وفي الأسواق القليلة التي ما زالت تعمل، تُباع السلع الأساسية بأثمان لا يقدر عليها معظم السكان، بينما يعتمد الكثيرون على وجبة واحدة في اليوم أو على ما يجود به الجيران.
حتى المياه النظيفة أصبحت عملة نادرة، بعد أن تعطلت شبكات الضخ وتضررت محطات الكهرباء بفعل القتال المستمر.
مأساة إنسانية متصاعدة
وداخل المستشفيات القليلة التي ما زالت تعمل، الأطباء يواجهون المستحيل. فالمستلزمات الطبية شبه منعدمة، والأدوية الأساسية نفدت، وأجهزة الإسعاف لا تجد وقودًا للتحرك.
آلاف المرضى لا يتلقون العلاج اللازم، والولادات تتم في ظروف بدائية.
أما الأطفال، فهم الضحايا الأكبر، حالات سوء التغذية الحاد ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة، وأعداد المصابين بالأمراض المعدية في ازدياد.
مشاهد الأمهات اللواتي يحاولن تهدئة أطفالهن الجائعين أصبحت جزءًا من الحياة اليومية، فيما تحوّلت المدارس إلى ملاجئ مكتظة بالنازحين.
نزوح متواصل ومعاناة بلا نهاية
ولم تعد الفاشر وجهة للنزوح فقط، بل تحولت إلى نقطة عبور للهرب من الجحيم.
آلاف العائلات خرجت سيرًا على الأقدام في محاولات يائسة للوصول إلى مناطق أكثر أمنًا، لكن كثيرين منهم علقوا في الطرق أو اختفوا وسط خطوط القتال.
الذين بقوا داخل المدينة يعيشون بين الخوف من القصف والجوع، وبين فقدان الأمل في النجاة.
لا أحد يستطيع المغادرة بأمان، ولا أحد يستطيع الدخول بالمساعدات. وحتى المنظمات الإنسانية باتت عاجزة عن الوصول، بعدما أُغلقت الممرات الإنسانية بشكل شبه كامل.
اقتصاد مدمر وحياة معلقة
الاقتصاد المحلي في الفاشر انهار بالكامل. توقفت الأنشطة التجارية، وتراجعت حركة الأسواق، واختفت مصادر الدخل لمعظم الأسر.
المزارعون لم يتمكنوا من الوصول إلى أراضيهم، والتجار فقدوا سلعهم ومخازنهم، فيما أصبح الاعتماد على المساعدات إن وصلت، هو الأمل الوحيد للبقاء.
وفي ظل هذا الانهيار، بدأت تظهر ظواهر جديدة مثل المقايضة بالسلع بدل النقود، وانتشار السوق السوداء التي تتحكم في أسعار كل شيء من الوقود إلى الخبز. حتى الأدوية الأساسية صارت تُباع بأسعار خيالية، إن وُجدت أصلًا.
الأطفال والنساء في قلب المأساة
النساء والأطفال يشكّلون الوجه الأكثر وجعًا للأزمة. آلاف النساء فقدن أزواجهن أو أبناءهن، ويجدن أنفسهن اليوم مسؤولات عن إعالة أسر بأكملها في بيئة قاسية تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
المدارس تحولت إلى مراكز إيواء، والملاعب أصبحت ساحات للبحث عن الماء والطعام، أجيال كاملة مهددة بفقدان التعليم، بعدما توقفت الدراسة في معظم المدارس بسبب القتال المستمر.
ومع غياب الأمن، تتصاعد المخاوف من تفشي الانتهاكات ضد النساء في مناطق النزاع، ما يضيف جرحًا جديدًا إلى جراح المدينة.
القطاع الصحي على حافة الانهيار
المستشفيات في الفاشر تعمل فوق طاقتها، رغم نقص الكوادر والمستلزمات. أطباء وممرضون يعملون ساعات طويلة وسط انقطاع الكهرباء ونقص الأدوية. أقسام الطوارئ ممتلئة بالجرحى، وغرف العمليات تُضاء بالمصابيح المحمولة.
بعض المستشفيات توقفت تمامًا عن استقبال المرضى بعد نفاد الوقود وانقطاع الإمدادات.
وحتى المنظمات الدولية التي كانت تقدم الدعم الصحي أصبحت عاجزة عن مواصلة العمل بسبب انعدام الأمن وصعوبة التنقل.
الجوع سلاح جديد
وفي ظل الحصار، أصبح الجوع أحد أخطر الأسلحة غير المعلنة، فالمواد الغذائية لا تدخل، والمساعدات تتعطل على الطرق، والمزارع المحيطة دُمّرت أو نُهبت. أصبح الجوع وسيلة ضغط تدفع السكان إلى الاستسلام أو النزوح.
وفي بعض الأحياء، بدأ الناس يعتمدون على أوراق الأشجار أو الحبوب المتبقية من الموسم الماضي، في مشهد يعيد للأذهان أكثر الأزمات الإنسانية قسوة في القارة الإفريقية.
أصوات الاستغاثة تتعالى
ومن داخل المدينة، تتصاعد النداءات المطالبة بفتح ممرات إنسانية عاجلة لإدخال الغذاء والدواء، وتوفير حماية للمدنيين المحاصرين. سكان الفاشر لا يطلبون الكثير فقط حقهم في الحياة.
الكوادر الطبية والمعلمون والعمال المحليون أطلقوا نداءات عبر القنوات الإنسانية للإسراع في التدخل، لكن الاستجابة ما زالت بطيئة، وسط تعقيدات سياسية وعسكرية تعرقل وصول الإغاثة.
المدينة التي لا تنام على صوت القصف
ليل الفاشر مظلم وصامت إلا من أصوات القذائف. السكان ينامون على وقع الانفجارات ويستيقظون على أخبار القتال في الأحياء المجاورة.
ورغم كل ذلك، لا تزال بعض مظاهر الحياة تقاوم مقهى صغير يفتح أبوابه لساعات محدودة، مدرسة تحاول استقبال الأطفال رغم الخطر، ومتطوعون يوزعون ما تبقى من الطعام على الأسر الأكثر فقرًا.
إنها مظاهر بسيطة، لكنها تعكس تمسك أهل المدينة بالحياة رغم كل شيء.
دعوات لإنقاذ الفاشر
المشهد الإنساني في المدينة اليوم بات يفوق الوصف. ملايين الأرواح مهددة، والأطفال يعانون من سوء تغذية حاد، والأمراض تنتشر في بيئة من الفقر واليأس.
المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وإنساني، فكل يوم يمرّ دون تدخل يزيد من عمق المأساة.
هناك حاجة عاجلة لفتح ممرات إنسانية آمنة، وضمان حماية المدنيين، وعودة المنظمات الإنسانية للعمل بحرية كاملة. كما أن إنهاء الحصار يجب أن يكون أولوية قصوى لأي جهود تفاوضية مستقبلية.
الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصَرة، بل رمز لصمود إنساني في وجه القسوة والخذلان.
ورغم الألم، ما زال سكانها متمسكين بالأمل في أن تتوقف الحرب، وأن تعود الحياة إلى شوارعها ومدارسها وأسواقها.
لكن حتى يتحقق ذلك، تبقى الفاشر تنزف بصمت، شاهدة على معاناة شعبٍ لم يفقد إيمانه بالحياة، رغم أن العالم كله يدير وجهه بعيدًا عنها.