مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

لماذا تخلت أمريكا عن الأسلحة البيولوجية؟.. أسرار برنامج فورت ديتريك وخفايا قرار نيكسون

نشر
الأمصار

في خطوة اعتبرها الكثيرون تاريخية، أعلنت الولايات المتحدة عام 1969 إنهاء برنامجها الهجومي للأسلحة البيولوجية، بعد أكثر من ربع قرن من الأبحاث السرية.

وبينما يبدو القرار أخلاقيًا على السطح، تكشف الوثائق والتحليلات أن الدوافع الحقيقية كانت مزيجًا معقدًا من حسابات استراتيجية، ومخاوف علمية، وضغوط دولية.

هذا التقرير المطوّل يسلّط الضوء على القصة الكاملة لبرنامج الأسلحة البيولوجية الأمريكي، من نشأته إلى قرار الرئيس ريتشارد نيكسون، مع تحليل لأبعاده الأمنية حتى اليوم.

جذور البرنامج وأسرار الحرب الباردة

بدأت الولايات المتحدة تطوير أسلحة بيولوجية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأت مختبرات متقدمة في قاعدة فورت ديتريك بولاية ماريلاند عام 1943. ومع تصاعد التوتر بين الشرق والغرب في الحرب الباردة، تسارعت وتيرة الأبحاث لتطوير ترسانة بيولوجية هجومية تهدف إلى إصابة البشر والحيوانات والمحاصيل الزراعية بمواد قاتلة، ما جعل هذه الترسانة أخطر حتى من الأسلحة النووية في بعض التقديرات.

في ستينيات القرن الماضي، تمكن علماء البرنامج الأمريكي من تحويل سبعة عوامل بيولوجية إلى أسلحة جاهزة للنشر:

  • الجمرة الخبيثة (Anthrax): أبواغ شديدة المقاومة تبقى فعّالة لعقود.
  • الطاعون التولاريمي (Tularemia): بكتيريا عدواها مميتة حتى بجرعات ضئيلة.
  • الحمى المالطية (Brucellosis): تسبب حمى مزمنة ومنهكة.
  • حمى كيو (Q Fever): قادرة على تعطيل وحدات قتالية كاملة.
  • التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي (VEE): يسبب اضطرابات عصبية حادة.
  • سم البوتولينوم (Botulinum Toxin): أحد أخطر السموم المعروفة.
  • سم المطثية العسيرة (Enterotoxin B): يسبب تسممًا معويًا سريعًا.

لم تقتصر الجهود على تطوير الميكروبات، بل شملت ابتكار قنابل بيولوجية وأنظمة رذاذ يمكنها نشر الجراثيم على نطاق واسع.

تجارب مثيرة للجدل على الأراضي الأمريكية

أخطر ما كشفته الوثائق هو إجراء تجارب ميدانية سرية داخل الولايات المتحدة. ففي مدينة سان فرانسيسكو، نشر الجيش الأمريكي سحابة من بكتيريا «السراتية الذابلة» لدراسة أنماط انتشارها. ورغم الادعاءات الرسمية بأنها غير ضارة، ارتبطت التجربة بحالات مرضية ووفيات، لتثير جدلاً أخلاقيًا وعلميًا واسعًا.

كما جرت اختبارات أخرى في مترو نيويورك وبحر الكاريبي، ما أثار مخاوف من أن المواطنين الأمريكيين أنفسهم كانوا حقل تجارب في سباق تسلح غير معلن.

قرار نيكسون.. بين الأخلاق والبراغماتية

في عام 1969، أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون بشكل مفاجئ إنهاء برنامج الأسلحة البيولوجية الهجومي وتدمير المخزونات بحلول 1973. وقدّم القرار كخطوة أخلاقية «للتخلي عن أسلحة قد تسبب أوبئة لا يمكن السيطرة عليها».

لكن تحليلات تاريخية تؤكد أن القرار كان مدفوعًا أيضًا بعوامل استراتيجية:

  • صعوبة التحكم في العدوى وإمكانية انتقالها إلى القوات الأمريكية وحلفائها.
  • مخاطر ردود الفعل الدولية وسباق تسلح بيولوجي مع الاتحاد السوفيتي.
  • الحاجة إلى تعزيز صورة واشنطن كقوة مسؤولة في أعقاب حرب فيتنام.

هذا التوجه مهّد الطريق لتوقيع اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية عام 1972، التي منعت تطوير وإنتاج وتخزين هذه الأسلحة، لتصبح أحد أعمدة القانون الدولي في منع أسلحة الدمار الشامل.

برامج دفاعية مستمرة حتى اليوم

رغم إنهاء البرنامج الهجومي، استمرت الولايات المتحدة في أبحاث بيولوجية تحت مسمى الدفاع البيولوجي، تشمل تطوير لقاحات وأنظمة إنذار مبكر واكتشاف هجمات محتملة. ويرى بعض الخبراء أن هذه الأبحاث قد تكون ثغرة قانونية تسمح بالحفاظ على قدرات كامنة يمكن توظيفها عند الحاجة، ما يثير تساؤلات حول التزامات واشنطن الحقيقية.

دروس الحاضر والمستقبل

تجربة أمريكا مع الأسلحة البيولوجية تكشف مفارقة لافتة: التكنولوجيا التي طُورت للحرب أصبحت أداة للدفاع. فالأبحاث التي بدأت لأغراض هجومية أسهمت لاحقًا في تطوير لقاحات وأدوات تشخيص سريعة لمواجهة أمراض مثل الإيبولا وكوفيد-19.

ومع تزايد المخاوف من الإرهاب البيولوجي وانتشار تقنيات الهندسة الوراثية، تؤكد هذه القصة أهمية وجود رقابة دولية صارمة وتعاون عالمي لتفادي كوارث قد تتجاوز في آثارها الحروب التقليدية.

إذن، لم يكن قرار واشنطن بالتخلي عن الأسلحة البيولوجية مثالية مطلقة، بل مزيجًا من الأخلاق والحسابات العملية. فهذه الأسلحة التي يصعب التنبؤ بنتائجها تمثل تهديدًا للبشرية كلها، وليس لخصوم الولايات المتحدة فقط. 

واليوم، وبينما تواصل أمريكا ودول أخرى برامج دفاعية بيولوجية، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن أن يؤدي أي سباق تكنولوجي جديد إلى عودة هذه الأسلحة الفتاكة إلى الواجهة؟