د. عبد الله فيصل آل ربح يكتب: «اغتيال كيرك وخفايا الديمقراطية»

في مشهدٍ دراميّ، يخطب الناشط اليميني تشارلي كيرك في الجماهير المحتشدة بجامعة يوتا فالي، ويدعو إلى مواجهة أجندة اليسار الليبرالي التي حرفت بوصلة المواطن الأميركي من قيم الآباء المؤسسين إلى أمور تهدم قيم المجتمع الأميركي - وفق وجهة نظره - مثل التعسف في دمج المكونات غير البيضاء، وتعاظم قوة المثليين والعابرين جنسياً، وتقييد حيازة السلاح عند عامة الناس. وخلال تناوله النقطة الأخيرة، مدافعاً عن حرية حيازة السلاح، إذا برصاصة تخترق عنقه لتنهي حياته بهدوء سبقَ صخبَ ركضِ الجمهور المرتبك من هول الصدمة.
إنَّ ذعر الجماهير مبنيٌّ على فرضية أنَّ الحادث ليس مجرد اغتيال عادي؛ إذ ظنوا أنَّه إطلاق نار جماعي، مثل ذلك الذي يحدث بين الفينة والأخرى في كل عام داخل المؤسسات التعليمية بمختلف الولايات. ورغم أنَّ الموضوع اقتصر على اغتيال كيرك، فإنَّ ذلك المنظر أعاد للأذهان تصريحه المثير للجدل بشأن تلك الحوادث حينما قال قبل أشهر: «من المؤسف أن يكون هناك بعض الوفيات الناتجة عن الأسلحة كل عام، لكن الأمر يستحق ذلك لكي نحافظ على (التعديل الثاني)». فهو يدافع عن دستورية حرية حيازة السلاح لدى عامة الشعب بموجب «التعديل الثاني» الذي ينصّ على حقّ المواطنين في حيازة الأسلحة وحملها بحرية.
قُبض على المشتبه فيه، وتبين أنَّه من كارهي الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يُعدّ كيرك من أبرز مناصريه. كما تبيَّن وجود عبارات على الذخيرة التي عُثر عليها في مكان الحادث، منها: «أوه... بيلا تشاو»، وهي أغنية إيطالية اكتسبت شهرة عالمية بوصفها نشيد مقاومة للفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، واستُخدمت في مسلسل «ذا هايس» الذي لاقى شعبية واسعة على منصة «نتفليكس»، والذي بُني على الانحياز العاطفي لزعيم عصابة يعاني من اعتلال نفسي. وفي ذلك إشارة واضحة إلى اتهام ترمب ومناصريه بالفاشية.
هذا الاغتيال السياسي يقع ضمن ما تُعرف بـ«هجمات الذئاب المنفردة»، وهي عمليات عنف ترقى لمستوى الإرهاب تُرتكب في أماكن عامة على يد شخص منفرد خطط ونفذ من تلقاء نفسه، دون انتمائه تنظيمياً إلى جماعة محددة. مثل تلك العمليات تستمد قوتها في تهديد الأمن العام من صعوبة اكتشاف تخطيطها أو الاستعداد لمواجهتها قبل حدوثها.
الواقع أنَّ تلك العمليات تكشف عن حقيقة صادمة لكثيرين، مفادها بأنَّ أصحاب الخطاب العنصري - مثل جماعة اليمين المتطرف - ليسوا وحدهم من يعبّئون المجتمع بخطاب الكراهية، بل إنَّ خصومهم ليسوا بأقل منهم.
إنَّ الدافع الرئيسي وراء «هجمات الذئاب المنفردة» هو الشعور باليأس من القنوات المشروعة لحل مشكلاتهم، فيستهدفون أشخاصاً، أو جماعاتٍ، شَيْطَنَهم أربابُ الفكر المتطرف الذي ينتمون إليه. وخلال العقد الماضي، كانت الولايات المتحدة مسرحاً للتعبئة الجماهيرية بالكراهية بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالي بشكل متطرف من الجهتين.
وإذا كان المستهدف هذه المرة هو الناشط اليميني تشارلي كيرك، فقبلها بـ3 أشهر اغتيلت رئيسة مجلس نواب ولاية مينيسوتا، ميليسا هورتمان، الديمقراطية (اليسارية) مع زوجها. وفي طريقه لتنفيذ العملية، أطلق المجرم النار على النائب الديمقراطي جون هوفمان وزوجته، لكنهما نجوا من الموت بعد قضاء 3 أسابيع في العناية المركزة.
إنَّ «هجوم الذئاب المنفردة»؛ بهدف التخلص من السياسيين المناوئين لكل حزب، يفتح باب النقاش بشأن فكرة الثقافة الديمقراطية لجمهورية تدخلت في دول عدة حول العالم بهدف نشر الحريات والديمقراطية. وقد جاءت تلك التدخلات على هيئة حملات عسكرية في فيتنام، وأفغانستان، والصومال، والعراق... وغيرها. والسؤال المطروح هنا: هل تشرّب السياسيون الأميركيون - قبل عامة الشعب - قيمَ الديمقراطية التي تقوم على حاكمية صناديق الاقتراع وحفظ حق الآخرين في الاختلاف فيما لا يخالف القانون؟
الواقع يقول إنَّ الديمقراطية الأميركية تحوّلت نظاماً مغلقاً فعلياً، مفتوحاً نظرياً، يضمن للنخب التحكم في عامة الناس وتعبئتهم بخطابات كراهية لخصومهم. وبعد تنفيذ تلك الجرائم على أيدي «الذئاب المنفردة»، يخرج السياسيون المناوئون للضحية ليعلنوا عن تعاطفهم معها ورفضهم العنف الذي كانوا هم سبب تغذية الفكر المتطرف الذي أفضى إليه.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط