أنمار الدروبي يكتب: الأزمة العالمية الحالية ومستقبل الغرب

من خلال قرأة الأحداث، قطعا هنالك أزمات متعددة وخطيرة تراكم سلبها وتعقيدها في العالم الغربي، ويمكن أن تؤدي الأزمة العالمية الحالية إلى الخلط بين القيم. ومما يزيد من صعوبة تكوين صورة واضحة في الذهن أن العالم الغربي عالم مثالي خالي من الشوائب والتعصب الثوري، عالم يعيش على المحبة والسلام، عالم الحرية ورفض الاستبداد. ومن ثم يستمر هذا التصور الخاطئ لدى ملايين الناس باعتبار تمسك الغرب بهذه المبادئ إنما ينبعث من الحواز الأخلاقية. ولكنها في الحقيقة رياء ونفاقا لأن الواقع يظهر لنا غرب آخر، غرب أكثر تعقيدا، عالم أسود ومثال بسيط للصراع بين الطبقة العاملة والظلم الرأسمالي.
وبالعودة إلى عبارة (الخلط بين القيم) فرنسا كانت تعتبر حصن المدنية الغربية المنيع وفي المدة ما بين حركة الإصلاح والثورة الفرنسية قد أحدثت تغييرا أساسيا في العلاقات القانونية بين الناس، ولكنها انضمت إلى النازية بعد إن اجتاحتها الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الثانية. بينما روسيا السوفيتية ايقونة ورمز الثورة الاجتماعية تحالفت مع الديمقراطيات الغربية المحافظة وحاربت معها جنبا إلى جنب. ولا ننسى بأن خارطة أوروبا الحالية أنتجتها الحرب العالمية الثانية وفقا لمعادلة موازين القوى. بمعنى أن أوربا ستشهد تغييرات كبيرة في المرحلة القادمة، وربما تفكك الاتحاد الأوربي قد يصبح أمرا لا بديل عنه، لكن الموضوع معقد يبقى رهينة التطورات السياسية وربما الصفقات السرية.
كيف سيكون شكل العالم على المدى القريب بعد كل هذه الأزمات التي يشهدها النظام السياسي الدولي، ربما ستراجع قيادات الدول سياساتها ومصالحها الاقتصادية وتدرس الأخطار التي يمكن أن تحيق بها لتختار مع من تضع أيديها، وما الذي ينبغي للدول أن تتخذ من قرارات مصيرية واستراتيجيّة. هنا لابد أن نشير بوضوح الى حجم الرعب والخطر المحدق بالدول المجاورة لروسيا خصوصا المنضوية تحت عباءة الاتحاد الأوربي، هذه الدول مشلولة القدرة العسكرية ويمكن اعتبارها أرض حرام حسب قواعد الاشتباك العسكرية.
من الخطأ أن يذهب تفكير البعض باتجاه فرض عودة الحرب الباردة ودخول العالم في سباق تسلح جديد. لكن تاريخ روسيا ودورها في السياسة العالميّة سواء القريب بما كانت عليه إبان عهد الاتحاد السوفيتي أو السابق ما قبل الثورة البلشفية، يمكن أن يضع العالم على مدار فلك سياسة القطبية المتعددة، بينما كانت روسيا ترتب أوراقها مع مجموعة دول البريكس BRICS في خطوات اقتصادية حثيثة نحو تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية منذ العام 2009، كانت أمريكا مع مجموعة حلف الأطلسي تتخبط في ترميم نتائج أخطاء ما اقترفت سياستها في العراق وافغانستان، ولم تنتهي لنتيجة أكثر من تفاقم الكوارث وتداعيات أخرى تسببت في اندلاع حريق كبير شمل عدة دول في الشرق الاوسط لا تزال نيرانه تحرق الأخضر واليابس. عليه فلا جدال على تحالف روسي مع الصين، ولا ريب بأن النظام الكوري الشمالي في أهميته للصين وروسيا يعادل قيمة إسرائيل الاستراتيجية لدى أمريكا، فهو يؤدي ضمن محيطه نفس الدور الجيوسياسي الذي تؤديه اسرائيل في الشرق الأوسط، سواء كون هذا النظام رأس حربة أو عامل لزعزعة الاستقرار السياسي.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فلا قانون ولا عُرف ولا شيء يبيح لها بالتدخل وتحشيد قواتها العسكرية أكثر من دافع الهيمنة الاستعمارية والدفاع عن الجاليات اليهودية التي تم استجماعها من شتى بقاع العالم وحشرها في مستوطنات ضمن كيان دولة لا تتجانس مع محيطها الإقليمي. والأخطر من ذلك هو التجسيد الأسطوري لمشروع الحركة الصهيونية الذي أسس وجود هذه الدولة. فهو مشروع ديني يتناقض مع منطق التاريخ ويعادي جميع الشعوب والأمم بمنطلقات عقيدته العنصريّة. بالتالي فإن جميع ما تمر فيه منطقتنا من حروب وويلات أو تردّي وتخلف يرتبط مباشرة بعامل وجود هذا الكيان المدسوس في جسد الشرق الأوسط. فلم يكن احتلال وتدمير العراق إلا من حيث كونه يشكل خطرا حقيقيا كان يهدد وجود اسرائيل.
وفي خضم هذا السجال الروسي الأمريكي ربما تبادر فيها دول أوروبا بتشكيل قوة ثالثة لتفرض قطبيتها بمعزل عن هذا السجال، وهذا أفضل اختيار لكنه يتطلب اجراءات معقدة جدا على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجيّة. المرجّح أن كثير من دول العالم ستختار سياسة الحياد وعدم الانسياق خلف القطبين الروسي والأمريكي. وفيما يخص بريطانيا، فلا يوجد خيار استراتيجي للمملكة المتحدة البريطانية سوى أن تكون مركز قيادة للتحالف الغربي الأمريكي.
وبعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تشعر فرنسا بأنها فقدت جزء كبير من تأثيرها على أوروبا، سيما أن فرنسا تعتبر بريطانيا حائط الاستناد القوي لها. في الوقت نفسه أن بريطانيا لم تعد قوة عظمى وكذلك فرنسا، مقابل دول أخرى برزت على الساحة الدولية وأصبحت رقم صعبا في النظام السياسي الدولي والعلاقات الدولية.
أما ألمانيا فهي شريان أوروبا الاقتصادي وأكثر فهي مارد أوروبا السياسي والاقتصادي، لكن لا يوجد تناسب بين قوتها الاقتصادية وقوتها العسكرية. هذا الخلل سيظهر في حالة تفكك الاتحاد الأوروبي، لاسيما أن ألمانيا تحقق توازن قوى بين قوتها الاقتصادية وقوة الاتحاد الأوربي عسكريا. وفي حالة تفكك الاتحاد الأوروبي ستكون ألمانيا مجبرة على مد يدها إلى روسيا في تحالف عسكري أو اتفاق سلام يضمن استقرارها ويحقق مصالحها. في السياق ذاته هناك صراع تاريخي جيوسياسي بين ألمانيا وفرنسا يتمحور حول موضوع مقاطعتي (الألزاس واللورين).
وفيما يخص اسبانيا ووضعها المضطرب بجوار فرنسا، حيث أن وجود اسبانيا داخل الاتحاد الأوربي هو الذي يمنع انقسام المقاطعات الاسبانية، وان أي ضعف في الاتحاد الأوربي سيؤدي إلى تقسيم اسبانيا وأولهما هي كتالونيا. ناهيك عن الخلافات المتنامية بين دول الاتحاد الأوربي حول موضوع الهجرة، حيث لم يستبعد بعض من قادة دول الاتحاد الأوربي انهيار وتفكك الاتحاد بسبب المشاكل المتفاقمة للهجرة غير الشرعية.
المعضلة الكبرى ستنتاب حال بعض الدول في تقرير وضعها السياسي والاستراتيجي مثل اليابان القريبة من روسيا والصين في آسيا أو ألمانيا ومملكة السويد في أوروبا. هذه الدول ستشكل أهم عامل في تقرير شكل توازن القوى في العالم، والمرجّح أن تتخذ سياسات مستقلة أشبه ما تكون عليه بيضة القبان وتلعب دورا كبيرا في الحفاظ على الأمن والسلم الدولي. شأن كندا واستراليا محسوم لصالح قطبية الولايات المتحدة الامريكيّة.
المؤكد أن التغيرات لن تحدث بدون ضجيج وما يرسم على الأرض يحتاج الى أدوات تعديل للمساحات. كما تحتاج زراعة الحقول الى عملية حرث وتمهيد لسواقي تصريف المياه.