مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

قمة شنغهاي بتيانجين.. غزة تتصدر المشهد وأوكرانيا الغائب الأكبر

نشر
الأمصار

شهدت مدينة تيانجين الصينية انعقاد واحدة من أهم قمم منظمة شنغهاي للتعاون منذ تأسيسها، إذ جمعت تحت سقف واحد قادة روسيا والصين والهند ودول آسيا الوسطى، إلى جانب حضور شركاء من أفريقيا والشرق الأوسط وممثلين عن الأمم المتحدة. 

القمة، التي وُصفت بأنها الأضخم في تاريخ المنظمة، لم تكن مجرد لقاء إقليمي، بل محطة سياسية كبرى ألقت الضوء على تحولات النظام الدولي في ظل الأزمات المتلاحقة، وعلى رأسها الحرب الأوكرانية المستمرة والتوتر الأمريكي–الصيني، إضافة إلى النزاعات المشتعلة في الشرق الأوسط وعلى رأسها حرب غزة.

الصين تقود المشهد

في كلمته الافتتاحية، حرص الرئيس الصيني شي جين بينغ على تقديم بلاده كقوة تقود مساراً جديداً في العلاقات الدولية، مؤكداً أن المنظمة قادرة على أن تكون منصة بديلة لإدارة التفاعلات بين القوى الكبرى والدول النامية بعيداً عن الهيمنة الغربية. 

وأعلن شي عن جملة مبادرات أبرزها تأسيس بنك تنمية خاص بالمنظمة، وإطلاق منصة تعاون دولية في مجال الطاقة، في خطوة تهدف إلى ترسيخ نفوذ بكين الاقتصادي وتعزيز قدرتها على جذب الشركاء عبر أدوات التمويل والاستثمار.

كما تعهّد الرئيس الصيني بتقديم قروض ميسرة بقيمة 1.4 مليار دولار على ثلاث سنوات، إلى جانب ملياري يوان من المساعدات المباشرة هذا العام و10 مليارات يوان كقروض لدعم كونسورتيوم البنوك التابع للمنظمة. 

ولم تقتصر المبادرات على الجانب المالي، بل شملت المجال التكنولوجي عبر إتاحة نظام الملاحة الفضائية الصيني "بايدو" للدول الأعضاء كبديل للنظام الأمريكي "GPS"، بما يعزز استقلالية هذه الدول في قطاعات استراتيجية مثل النقل والدفاع والاتصالات.

ملامح النظام المتعدد الأقطاب

رسائل قادة المنظمة تركزت على ضرورة تجاوز مرحلة "الأحادية القطبية" التي تهيمن عليها الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، والتوجه نحو نظام دولي أكثر توازناً وعدلاً. 

فقد شدد المشاركون على أن التعددية باتت ضرورة لا خياراً، وأن صوت الدول النامية والإقليمية يجب أن يكون حاضراً في صياغة القرارات الدولية، لا سيما في مجالات الأمن والتنمية والتكنولوجيا.

وشدد شي جين بينغ في كلمته أمام أكثر من 20 من قادة العالم على أن منظمة شنغهاي وضعت نموذجاً جديداً للعلاقات الدولية يقوم على التعاون لا المواجهة، وعلى التعددية لا الانفراد بالقرار. 

وأكد أن المنظمة تعزز ما وصفه بـ"التعددية الحقيقية" من خلال استخدام العملات الوطنية في التسويات التجارية بين أعضائها، وهو ما اعتُبر خطوة عملية لتقليل الاعتماد على الدولار والنظام المالي الغربي.

الموقف الهندي.. التعاون بشروط

ومن جانبه، أكد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أن مستقبل المنظمة يجب أن يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية هي: الأمن، الربط، والفرص. 

وحذر من أن أي تعاون إقليمي سيفقد قيمته إذا لم يُبنَ على الثقة المتبادلة والابتعاد عن السعي للهيمنة، في إشارة غير مباشرة إلى حساسية العلاقة بين نيودلهي وبكين. 

كما شدد مودي على ضرورة مواجهة الإرهاب دون ازدواجية في المعايير، لافتاً إلى أن هذه الظاهرة ما زالت تشكل تهديداً عابراً للحدود لا يمكن لدولة واحدة التصدي له منفردة.

روسيا وأزمة أوكرانيا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استغل المنصة لتجديد مواقفه بشأن الأزمة الأوكرانية، مؤكداً أن الغرب "سعى إلى استدراج أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي" بما يهدد الأمن الروسي، وأن أي تسوية مستدامة تتطلب معالجة جذور الأزمة، وعلى رأسها وقف توسع الناتو شرقاً. 

وألمح إلى أن تفاهماته الأخيرة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أغسطس الماضي قد تفتح الطريق أمام تسوية محتملة، مشيراً إلى تقدير موسكو للمقترحات الصينية والهندية في هذا الملف.

لكن غياب ذكر الحرب الأوكرانية في البيان الختامي للقمة أثار استياء كييف، التي اعتبرت ذلك "مفاجئاً" و"مؤشراً سلبياً"، حيث قالت وزارة الخارجية الأوكرانية إن من غير المقبول أن تُغفل مثل هذه القمة أشرس حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

غزة حاضرة رغم الغياب الأوكراني

وعلى عكس ملف أوكرانيا، حضرت غزة بقوة في النقاشات والبيان الختامي. فقد أعربت منظمة شنغهاي عن قلقها البالغ إزاء "الكارثة الإنسانية" التي يشهدها القطاع، وأدانت بشدة الهجمات التي تسفر عن سقوط مدنيين، داعية إلى وقف شامل ودائم لإطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عراقيل. 

كما تطرقت القمة إلى الاعتداءات الإسرائيلية في إيران خلال يونيو الماضي، وهو ما يعكس اتجاهاً متنامياً لدى المنظمة للانخراط في قضايا الشرق الأوسط، بما يتجاوز نطاقها الجغرافي التقليدي.

تحديات داخلية وخارجية

رغم الحضور الدولي الواسع والرسائل القوية، لا تزال منظمة شنغهاي تواجه تحديات كبيرة. فهناك تساؤلات حول قدرتها على تحويل الخطابات إلى سياسات ملموسة، خاصة في ظل الخلافات الداخلية بين أعضائها، مثل التوتر المزمن بين الصين والهند، وتباين المواقف تجاه العلاقة مع الغرب.

كما أن توسع المنظمة وازدياد طموحاتها يثيران قلق الولايات المتحدة وأوروبا، اللتين تعتبرانها محاولة لتقويض النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة.

الغرب في مرمى الانتقادات

لم يخلُ خطاب قادة شنغهاي من رسائل حادة تجاه الغرب. فقد شدد الرئيس الصيني على رفض "عقلية الحرب الباردة" وسياسات الترهيب، بينما ركز بوتين على أن الأمن الأوروبي لا يمكن أن يُبنى على حساب روسيا. 

وهذه الرسائل، وفق مراقبين، تعكس رغبة متزايدة لدى الصين وروسيا في صياغة بدائل للنظام الدولي الحالي، عبر بناء شبكات تعاون موازية في مجالات الطاقة والتمويل والتكنولوجيا والدفاع.

نحو أوراسيا أكثر تماسكاً

أحد المحاور البارزة في القمة كان التأكيد على بناء نظام أمني واقتصادي جديد في أوراسيا، يختلف عن النماذج الأوروبية الأطلسية. النظام المقترح، وفق القادة، سيكون أكثر توازناً وعدلاً، وسيأخذ في الاعتبار مصالح مجموعة واسعة من الدول دون السماح لقوة واحدة بفرض إرادتها. 

ويرى خبراء أن هذه الرؤية تمثل تحدياً مباشراً للهيمنة الغربية، لكنها في الوقت ذاته تواجه اختبارات عملية صعبة، خاصة في ظل تباين أولويات الأعضاء.

أبرز ما خرجت به قمة تيانجين أن العالم يسير بخطى متسارعة نحو التعددية القطبية، حيث لم يعد بإمكان قوة واحدة تحديد مصير العلاقات الدولية. 

وبينما غابت أوكرانيا عن البيان الختامي، حضرت غزة بقوة باعتبارها رمزاً للصراع الدولي حول العدالة والإنسانية. 

وفي المقابل، تظل منظمة شنغهاي مطالبة بإثبات قدرتها على التحول من منصة خطابية إلى قوة فاعلة قادرة على رسم ملامح المستقبل.

فهل تنجح في ذلك؟ أم تبقى مجرد تجمع رمزي في مواجهة الهيمنة الغربية؟ الإجابة قد تحدد شكل العالم خلال العقود المقبلة.