غزة تُعيد رسم البوصلة الدنماركية.. هل تقترب كوبنهاغن من الاعتراف بفلسطين؟

وسط تصاعد الأحداث في قطاع غزة، أعادت رئيسة الوزراء الدنماركية، ميته فريدريكسن، ملف الاعتراف بدولة فلسطين إلى دائرة الضوء، معلنة أن بلادها لا تستبعد اتخاذ خطوة تاريخية في حال تحقق شرط الديمقراطية.
وهذا الإعلان يأتي في سياق ضغوط شعبية متزايدة على الحكومة الدنماركية لمراجعة موقفها التقليدي من القضية الفلسطينية، بعد موجة احتجاجات شارك فيها آلاف المواطنين مطالبين بإنهاء الحرب في غزة ودعم إقامة دولة فلسطينية.
موقف سابق يعكس التردد الأوروبي

في مايو/أيار الماضي، صوّت البرلمان الدنماركي ضد مشروع قانون يقر الاعتراف بفلسطين، وهو تصويت جاء عكس الاتجاه العام في أوروبا، حيث تتزايد الدعوات لدعم الحقوق الفلسطينية.
وهذا الموقف كان متسقًا مع الحكومة آنذاك، إذ أكد وزير الخارجية لارس لوكه راسموسن أن الشروط اللازمة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة غير متوفرة، في إشارة إلى المخاوف من سيطرة حركة حماس على السلطة وعدم استقرار المؤسسات الفلسطينية.
ومع ذلك، يبدو أن الضغوط الداخلية والخارجية، بما فيها موجة الاحتجاجات الأخيرة، قد دفعت فريدريكسن إلى إعادة النظر في الموقف، مؤكدة أن الاعتراف بفلسطين يجب أن يخدم "الهدف الصائب"، وهو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية قادرة على الحكم بعيدًا عن نفوذ حماس، مع ضمان الاعتراف المتبادل بإسرائيل.
تصريحات فريدريكسن: دعم مشروط بفلسطين ديمقراطية
خلال مؤتمر صحفي عقدته يوم الثلاثاء، قالت فريدريكسن: "لا نرفض الاعتراف بفلسطين كدولة"، مضيفة: "نؤيد ذلك. لطالما كنا نؤيد ذلك، لكن من الواضح أنه علينا التحقق من أنها ستكون دولة ديمقراطية".
وتابعت رئيسة الوزراء الدنماركية أن الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية أوسع لحل الدولتين، مع التركيز على إقامة دولة فلسطينية دائمة تضمن حقوق المواطنين الفلسطينيين وتوفر الاستقرار الإقليمي.
وقد أكدت فريدريكسن أنها ستستفيد من رئاسة الدنمارك للاتحاد الأوروبي لممارسة ضغط أكبر على إسرائيل، معتبرة أن حشد الدعم اللازم لن يكون سهلاً، لكنها وأوروبا ستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذا الهدف.
وهذا التصعيد الدبلوماسي يأتي في وقت تتزايد فيه التوترات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بعد الهجوم الذي شنه مسلحون من حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأسفر عن مقتل 1219 شخصًا، معظمهم من المدنيين، وفقًا لوكالة فرانس برس، في حين أدى الرد الإسرائيلي إلى مقتل أكثر من 62 ألف شخص في غزة، غالبيتهم من المدنيين بحسب وزارة الصحة التابعة لحكومة حماس.
مواقف فريدريكسن من إسرائيل وحماس
في مقابلة مع صحيفة "يولاندس بوستن" منتصف أغسطس/آب الجاري، وصفت فريدريكسن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو بأنها "تشكل مشكلة بحد ذاتها" وذهبت "بعيدًا جدًا" في سياساتها تجاه غزة.
كما قالت على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي إن "استمرار سياسة العنف التي ينتهجها نتنياهو في غزة غير مقبول"، لكنها أكدت في الوقت نفسه دعم حق إسرائيل في حماية نفسها والقضاء على التهديد الذي تشكله حركة حماس.
ويعكس هذا الموقف توازنًا دقيقًا بين دعم حقوق الفلسطينيين ومراعاة المصالح الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يجعل الدنمارك، وفقًا لمراقبين، في موقع حساس في أوروبا، حيث تحاول الجمع بين التزامها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وبين الحفاظ على علاقات استراتيجية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
الضغط الشعبي وتأثيره على السياسة الخارجية
خرج آلاف الدنماركيين الأسبوع الماضي في مظاهرات حاشدة، داعين الحكومة إلى الاعتراف بدولة فلسطين ووضع حد لمعاناة المدنيين في غزة.
ويُنظر إلى هذه التحركات على أنها انعكاس لموجة غضب شعبي متصاعدة في أوروبا تجاه سياسات الاحتلال الإسرائيلي، ودليل على قدرة الرأي العام على التأثير في القرارات الرسمية للدول الصغيرة نسبيًا مثل الدنمارك، والتي غالبًا ما تتسم سياساتها الخارجية بالاعتدال والتحفظ.
ويلاحظ المحللون أن هذه الضغوط الشعبية تأتي في وقت يشهد فيه الاتحاد الأوروبي انقسامًا في مواقف أعضائه تجاه القضية الفلسطينية، فبينما تدعم فرنسا وألمانيا خطوات الاعتراف، تحجم دول أخرى عن اتخاذ أي خطوات قد تؤثر على علاقتها مع إسرائيل.
الاعتراف المشروط ودور الديمقراطية
أوضحت فريدريكسن أن الاعتراف بفلسطين يجب أن يكون مشروطًا بضمان قيام دولة فلسطينية ديمقراطية، بعيدًا عن نفوذ حماس، وبما يتوافق مع حل الدولتين.
وتأتي هذه الشروط على خلفية المخاوف من أن أي اعتراف مسبق دون استقرار المؤسسات الفلسطينية قد يؤدي إلى تعزيز النفوذ المتطرف في المنطقة، ما قد يفاقم الأزمة الإنسانية ويزيد من التوترات الإقليمية.
كما شددت على ضرورة الاعتراف المتبادل مع إسرائيل، مؤكدة أن "حل الدولتين هو الطريق لتحقيق السلام الدائم"، وهو ما يعكس سياسة خارجية متوازنة تسعى لإيجاد حل شامل يعزز الاستقرار في الشرق الأوسط.
الدنمارك والاتحاد الأوروبي: دور القيادة
في هذا الإطار، ستستغل الدنمارك رئاستها للاتحاد الأوروبي للضغط على إسرائيل وتحفيز الدول الأعضاء على دعم حقوق الفلسطينيين، على الرغم من التحديات الكبيرة في حشد الدعم داخل الاتحاد.
ويشير مراقبون إلى أن نجاح هذه الخطوة يعتمد على قدرة الدنمارك على بناء تحالفات أوروبية متينة تجمع بين الالتزام بالقانون الدولي ودعم السلام في المنطقة.
الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة أسفر عن مقتل آلاف المدنيين، ما أثار إدانات دولية واسعة. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن استمرار القصف والحصار يزيد من الأزمة الإنسانية في القطاع، ما يجعل مسألة الاعتراف بفلسطين ليست مجرد مسألة دبلوماسية، بل قضية إنسانية ترتبط بإنقاذ حياة المدنيين وتأمين حقوقهم الأساسية.
ولا يقتصر تأثير الموقف الدنماركي على أوروبا فقط، بل يمتد إلى المجتمع الدولي، حيث يمكن أن يشجع اعتراف الدنمارك بفلسطين دولًا أخرى على اتخاذ خطوات مماثلة.
ويُنظر إلى هذه التحركات على أنها محاولة لإعادة التوازن الدولي في ملف الشرق الأوسط، وضمان أن تكون الحقوق الفلسطينية جزءًا من أي تسوية مستقبلية
تأتي تصريحات فريدريكسن في وقت حساس للغاية، إذ تعكس تحولًا في البوصلة السياسية للدنمارك تجاه القضية الفلسطينية، بعد سنوات من الحياد والتحفظ.
وبينما تواصل الحكومة العمل على مراجعة المواقف الأوروبية والدولية، يبقى السؤال الأكبر عن مدى قدرة الدنمارك على تحويل هذه التصريحات إلى خطوات عملية على الأرض، تساهم في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية ومستقرة، وتحقيق حل الدولتين الذي طال انتظاره.