مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

بحر الصين الجنوبي.. اختبار يضع ترامب أمام معضلة الالتزامات الأمنية

نشر
بحر الصين الجنوبي
بحر الصين الجنوبي

يشكل بحر الصين الجنوبي واحدة من أكثر الساحات الجيوسياسية حساسية في العالم، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع طموحات إقليمية متناقضة، في ظل نزاعات متصاعدة بين الصين وجيرانها، وعلى رأسهم الفلبين.

 

وبينما تواصل بكين تكريس سيادتها على معظم مساحة هذا البحر الغني بالموارد والممر الحيوي للتجارة العالمية، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام معضلة الوفاء بالتزاماتها الأمنية تجاه حلفائها، في وقت ينشغل فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بملفات دولية أخرى أكثر سخونة.

عرض قوة صيني يثير قلق مانيلا

الأسبوع الماضي، شهدت المياه المتنازع عليها في شعاب توماس الثانية بجزر سبراتلي حادثة جديدة، بعدما نفذ خفر السواحل الصيني استعراضًا وُصف في مانيلا بأنه "غير عادي" للقوة. 

المنطقة التي تضم سفينة حربية فلبينية صدئة تُعرف باسم "بي آر بي سييرا مادري" وتُستخدم كقاعدة عسكرية صغيرة، تحولت مجددًا إلى نقطة اشتعال.

بكين اعتبرت وجود السفينة "غير قانوني"، مؤكدة أن تحركاتها جاءت ردًا على ما وصفته بـ"الاستفزازات الفلبينية". لكن بالنسبة لمراقبين، فإن هذا التحرك لم يكن مجرد حادث عابر، بل محاولة جديدة لاختبار مدى التزام واشنطن بمعاهدة الدفاع المشترك مع مانيلا، وهي إحدى أقدم الاتفاقيات العسكرية في المنطقة.

معاهدة دفاع عمرها عقود

وتعود معاهدة الدفاع الأمريكية الفلبينية إلى منتصف القرن الماضي، وتنص على التزام واشنطن بالدفاع عن الفلبين في حال تعرضها لهجوم مسلح.

ورغم أن الإدارة الأمريكية أكدت مرارًا أن الاتفاق يشمل أي اعتداء في بحر الصين الجنوبي، إلا أن الشكوك تتزايد مع كل حادثة جديدة، خصوصًا في ظل تراجع تركيز البيت الأبيض على جنوب شرق آسيا.

ومنذ عام 2023، صعّدت الفلبين ردودها على الوجود الصيني المتزايد في منطقتها الاقتصادية الخالصة، ما أدى إلى مواجهات بحرية واحتكاكات متكررة. حادثة يونيو/حزيران 2024 التي أسفرت عن إصابة عدد من الجنود الفلبينيين كانت مؤشرًا خطيرًا، لكن مانيلا آثرت آنذاك عدم طلب تفعيل المعاهدة، مكتفية بتعزيز قدراتها عبر التعاون العسكري مع واشنطن، بما في ذلك نشر نظام صواريخ أمريكي متطور من طراز "نمسيس".

اختبار لواشنطن

التحركات الصينية الأخيرة وُصفت في تقرير لمجلة "نيوزويك" الأمريكية بأنها "اختبار مباشر" لواشنطن. 

إذ يرى محللون أن بكين تدرك انشغال إدارة ترامب بملفات أكثر تعقيدًا مثل الحرب في أوكرانيا والأزمة المستمرة في غزة، وبالتالي فهي تراهن على أن رد الفعل الأمريكي سيكون محدودًا.

روي ترينيداد، المتحدث باسم القوات المسلحة الفلبينية، شدد في تصريحات لـ"نيوزويك" على أن الجيش يراقب التطورات عن كثب، وأن بلاده "مستعدة لأي احتمال"، لكنه تجنب التكهن بنوايا الصين.

أصوات تحذير في واشنطن

وفي المقابل، يرى خبراء أمريكيون أن أي تقاعس من جانب إدارة ترامب قد يقوّض الثقة في المظلة الأمنية الأمريكية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

الباحث راي باول من جامعة ستانفورد حذر من أن "تشتيت انتباه البيت الأبيض عن جنوب شرق آسيا قد يُفسر في بكين على أنه ضوء أخضر لمزيد من التصعيد". 

وأضاف: "ترامب يبدو منشغلًا بمناطق أخرى.. ربما لا يلتفت إلى جنوب شرق آسيا إلا إذا تطور الأمر إلى صراع مباشر أو صفقة تجارية كبرى".

أما المحلل الجيوسياسي دون ماكلين جيل، المقيم في مانيلا، فأشار إلى أن الصين ربما ترى أن "خطر مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة تراجع مقارنة بالماضي"، ما شجعها على تعزيز وجودها في المنطقة.

ساحة أوسع للصراع

التوتر في بحر الصين الجنوبي لا يقتصر على بكين ومانيلا فقط. دول عدة من جيران الصين، مثل فيتنام وماليزيا وتايوان، لديها مطالب متداخلة في هذه المنطقة البحرية الغنية بمصايد الأسماك واحتياطيات الطاقة، فضلًا عن أهميتها كأحد أكثر ممرات الشحن ازدحامًا في العالم.

الصين، من جانبها، تبني جزرًا اصطناعية وتحصينات عسكرية، معتبرة أن معظم البحر يقع تحت سيادتها التاريخية. أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فيرون أن هذه التحركات تهدد حرية الملاحة وتشكل خطرًا على الاستقرار الإقليمي.

وعلى عكس إدارة جو بايدن السابقة، التي أكدت أكثر من مرة أن التزامات واشنطن تجاه الفلبين "ثابتة"، يبدو أن نهج ترامب يتسم ببراغماتية أكبر، إذ يركز على أولويات يعتبرها أكثر إلحاحًا، مثل الاقتصاد الأمريكي ومواجهة روسيا في أوروبا.

ولكن هذا الموقف يضعه في ورطة؛ فالتراجع عن دعم الفلبين قد يضر بمصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها الآخرين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا. وفي المقابل، فإن الدخول في مواجهة مباشرة مع بكين في وقت تتزايد فيه التوترات العالمية قد يفتح جبهة جديدة غير مرغوبة للبيت الأبيض.

إلى جانب البعد الأمني، لا يمكن فصل الصراع عن المصالح الاقتصادية، فبحر الصين الجنوبي يشهد مرور نحو ثلث التجارة العالمية سنويًا، بقيمة تتجاوز 3 تريليونات دولار. 

كما يُعتقد أنه يحتوي على احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يجعله هدفًا استراتيجيًا للقوى الكبرى.

الصين تحاول فرض نفوذها الكامل على هذه الموارد، بينما تسعى الفلبين ودول أخرى لحماية حقوقها الاقتصادية. الولايات المتحدة من جانبها، رغم أنها ليست طرفًا مباشرًا في النزاع، تعتبر حرية الملاحة في هذه المنطقة "مصلحة حيوية".

هل يشتعل الموقف؟

السؤال المطروح اليوم: هل يمكن أن ينزلق الوضع إلى مواجهة عسكرية مفتوحة؟ بعض الخبراء يرون أن احتمال الصدام قائم، خاصة إذا وقع حادث جديد يُسفر عن خسائر بشرية كبيرة. 

لكن آخرين يعتقدون أن الطرفين سيسعيان إلى تجنب التصعيد المباشر، مفضلين إبقاء النزاع في مستوى "الضغط المتبادل" دون انفجار شامل.

وفي هذا السياق، قال المحلل روي ترينيداد إن بلاده "لن تتسرع في التصعيد"، لكنها ستظل على أهبة الاستعداد. بينما تشير تقديرات أمريكية إلى أن أي هجوم مباشر على القوات الفلبينية قد يُجبر واشنطن على التدخل، تطبيقًا لمعاهدة الدفاع المشترك، وهو ما قد يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة مع الصين.

وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبدو أن بحر الصين الجنوبي سيظل ساحة صراع مفتوحة بين الهيمنة الصينية ومحاولات واشنطن الحفاظ على نفوذها. 

أما ترامب، فيجد نفسه أمام معادلة صعبة: إما إثبات التزامه تجاه الحلفاء، أو المخاطرة بفقدان الثقة الأمريكية في منطقة تُعدّ حجر أساس للتوازن العالمي.