الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.. هل بدأت إسرائيل تفقد الغطاء الدبلوماسي؟

في تطور سياسي غير مسبوق منذ سنوات، تتسارع خطوات المجتمع الدولي نحو الاعتراف بدولة فلسطين، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في مواقف دول غربية طالما تبنّت الرواية الإسرائيلية ووفّرت لها مظلة دبلوماسية قوية في المحافل الدولية. في المقابل، تبدو إسرائيل في موقف دفاعي حرج، معزولة عن كثير من حلفائها التقليديين، ومحاصَرة بتنامي الإدانات وبتراجع الدعم السياسي من قِبل أطراف دولية مؤثرة.
اعترافات أوروبية تقلب الموازين
في مايو 2024، أعلنت كل من إيرلندا، إسبانيا، والنرويج اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وهي خطوة اعتُبرت مفصلية ليس فقط لما تمثّله تلك الدول من ثقل سياسي داخل أوروبا، بل لما تحمله من دلالة على أن الدعم الغربي المطلق لإسرائيل لم يعد مسلّمًا به.
تبعتها بعد ذلك خطوات مماثلة من عدة دول أخرى في أمريكا اللاتينية، بعضها سبق له الاعتراف، لكن عاد وجدّد موقفه بموجب تصعيد الاحتلال في غزة، بينما عبّرت دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا وسلوفينيا وقبرص عن نوايا مماثلة في المستقبل القريب.
ويأتي هذا الزخم الدبلوماسي بعد حملة عسكرية إسرائيلية واسعة على قطاع غزة بدأت في أكتوبر 2023، خلّفت عشرات آلاف القتلى والجرحى، غالبيتهم من المدنيين، وأثارت استياءً عالميًا غير مسبوق تجاه تل أبيب. الضغوط الشعبية داخل المجتمعات الغربية، لا سيما بين الشباب والناشطين في الجامعات والنقابات، دفعت حكومات إلى إعادة النظر في مواقفها تجاه الصراع، في ظل انتقادات متصاعدة لما وُصف بـ"التواطؤ الدولي مع جرائم الحرب في غزة".
حالة من الارتباك في تل أبيب
الرد الإسرائيلي على هذه التطورات تراوح بين التجاهل والتهديد. فقد استدعت الخارجية الإسرائيلية سفراء الدول الثلاث (إيرلندا، إسبانيا، النرويج) في تل أبيب، وأعلنت عن عقوبات رمزية مثل تقليص العلاقات الدبلوماسية، بل ووصف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو هذه الاعترافات بأنها "مكافأة للإرهاب".
لكن المتابعين للشأن الإسرائيلي يؤكدون أن هذا الغضب يخفي شعورًا عميقًا بالقلق من تحول موجة الاعترافات إلى كرة ثلج يصعب إيقافها.
ويرى محللون أن الحكومة الإسرائيلية تخشى من أن يتزامن هذا الاعتراف السياسي الدولي مع تقدم في مسار محاكمة قادة إسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، وهو ما من شأنه أن يزيد عزلة تل أبيب الدولية ويفرض عليها كلفة سياسية وقانونية باهظة.
من الاعتراف إلى الإجراءات: تحديات المرحلة المقبلة
صحيح أن الاعتراف بدولة فلسطين يحمل دلالة سياسية قوية، إلا أنه لا يزال في الإطار الرمزي حتى الآن، إذ لم يُترجم بعد إلى إجراءات عملية مثل فرض عقوبات على إسرائيل أو دعم جدي لانضمام فلسطين إلى المنظمات الدولية بصفتها دولة كاملة العضوية.
غير أن الأهم في هذا التحول هو ما يحمله من تآكل للشرعية الأخلاقية التي لطالما استخدمتها إسرائيل لحماية نفسها من الانتقادات والقرارات الدولية. فمع كل اعتراف جديد، تتراجع قدرة إسرائيل على تصوير نفسها كدولة ديمقراطية "محاصَرة في محيط عدائي"، ويزداد الضغط على الدول الكبرى الداعمة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لتفسير استمرارها في الانحياز إلى جانب الاحتلال.
الولايات المتحدة في موقف حرج
رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لا تزال ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أن واشنطن تجد نفسها في موقف متناقض.
فمن جهة، تصر على حل الدولتين كخيار سياسي، ومن جهة أخرى ترفض أي خطوات ملموسة نحو هذا الحل.
ومع اتساع الهوة بين الرأي العام الأمريكي، خاصة بين الشباب واليسار الديمقراطي، وبين موقف الإدارة من إسرائيل، يبدو أن الملف الفلسطيني قد يتحول إلى نقطة خلاف محورية في انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2028.
الدبلوماسية الفلسطينية: ثمار عقود من العمل
في المقابل، يرى مراقبون أن هذا التحول ليس مفاجئًا بالكامل، بل هو ثمرة جهود دبلوماسية فلسطينية استمرت لعقود، منذ إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، وحتى نيل صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012. واليوم، تعترف أكثر من 140 دولة بدولة فلسطين، وهو رقم يمثل أكثر من ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما لعبت الجرائم الإسرائيلية في غزة دورًا جوهريًا في تسريع هذه الاعترافات، حيث بات من الصعب على الحكومات الغربية تجاهل مشاهد المجازر اليومية والبنية التحتية المدمرة والمجاعة التي تهدد حياة ملايين المدنيين.
هل نقترب من دولة فلسطينية فعلية؟
يبقى السؤال الأهم: هل تقود هذه الاعترافات إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية على الأرض؟
الجواب ليس بسيطًا. فالمعطيات الميدانية تشير إلى أن إسرائيل تواصل توسيع الاستيطان، وتفرض حصارًا خانقًا على غزة، وتتعامل مع السلطة الفلسطينية بوصفها "إدارة أمنية تحت السيطرة".
ومع ذلك، فإن التحول في الرأي العام العالمي، والتصاعد المستمر في الاعترافات، يطرحان سيناريو جديدًا، قد يجعل من إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا لا مفر منه على المدى البعيد، ولو في إطار فرض الأمر الواقع السياسي والدبلوماسي.
رغم أن الطريق نحو دولة فلسطينية حقيقية لا يزال طويلًا، إلا أن المشهد الدولي يشهد حاليًا لحظة فارقة. فإسرائيل، التي طالما كانت محصّنة دبلوماسيًا، تجد نفسها اليوم أمام موجة دولية ترفض صمت العالم عن سياساتها. وبينما تتغير مواقف الحكومات، يتغير الأهم: وعي الشعوب، الذي قد يكون السلاح الأقوى في المعركة من أجل عدالة القضية الفلسطينية.