مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

سليمان جودة يكتب: في النَّفْس شيء من «نوبل»

نشر
سليمان جودة
سليمان جودة

قصة الرجل العربي الذي مات «وفي نفسه شيء من حتى» قصة قديمة، ولكن اللافت فيها أنها متجددة دائماً، وأن تجلياتها فيما نتابعه من حولنا لا تكاد تنتهي.

ولو أنك جربت البحث فيما إذا كانت هذه القصة القديمة صحيحة أم إنها نوع من الخيال، فلن تصل إلى نتيجة حاسمة، ولكن المهم بالطبع هو معناها الباقي بيننا، ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان رجل عربي مشتغل باللغة، قد أنفق حياته في البحث عن أصل لفظة في اللغة، أم إنه رجل من صنع الخيال العربي في العموم.

لا يهم موضوع وجودها في الحقيقة من عدمه؛ لأن المعنى أن رجلاً لغوياً قد عاش حياته يبحث في «حتى» وفي استخداماتها في اللغة حتى مات. ولكنه غادر دنيانا دون أن يحقق مقصده، فقيل فيه -ولا يزال يقال- إنه مات وفي نفسه شيء من حتى!

تجد شيئاً قريباً من هذا المعنى في مسعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الحصول على «جائزة نوبل للسلام». ولا مشكلة في حصوله عليها طبعاً، ولكن المشكلة أن الحصول على «نوبل للسلام» له مقتضيات، وهذه المقتضيات لا تجدها متوفرة في الرئيس الأميركي؛ بل ربما تجد عكسها هو المتوفر فيه، من حيث قدرته على صناعة السلام بوصفه مبدأً بين الأمم.

فهو كان قد تعهد قبل دخوله البيت الأبيض إطفاء نار الحرب الروسية- الأوكرانية، ومعها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وعلى الفلسطينيين عموماً، ولكنه أتم 6 أشهر في مكتبه، بينما الحرب هناك بين الروس والأوكرانيين مرشحة للاشتعال أكثر، وكذلك الحرب هنا على القطاع مرشحة لمزيد من الاشتعال.

وعندما يقول الرئيس الأميركي إنه سوف يُزوّد أوكرانيا بأسلحة جديدة وكثيرة، فهذا ما ينفخ في نار الحرب التي دخلت عامها الرابع ولا يُطفئها، وعندما يتعنت رئيس حكومة التطرف في تل أبيب بنيامين نتنياهو في عقد اتفاق مع حركة «حماس»، فهذا من شأنه أن يزيد من القتلى والضحايا في القطاع.

وعندما يمنح ترمب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 50 يوماً لوقف الحرب، وإلا فإن بلاده ستتعرض لعقوبات، فليس من المتوقع أن يُسلِّم بوتين ويأتي خاضعاً، أو موقِّعاً على قرار يوقف هذه الحرب.

نتكلم عن حربين فقط من الحروب التي أرهقت العالم، ولا نتكلم عن حروب أخرى منسيَّة، كالحرب في السودان التي طالت بدورها وتجاوزت سنتين من عمرها، ومع ذلك، فإن إدارة ترمب أقدمت على ما يمكن أن يؤدي إلى إطالة أمدها أكثر!

لقد قرأنا كيف أنها فرضت عقوبات على الجيش السوداني؛ لأنه -في تقديرها- استخدم أسلحة كيماوية، وحين تبادر الإدارة الأميركية إلى فرض عقوبات كهذه، فلا بد من أنها تُضعف من موقف الجيش السوداني أمام «قوات الدعم السريع» التي تقاتل الجيش!

وحتى إذا كان الجيش قد استخدم ما تقول الإدارة إنه استخدمه، فليس هذا وقت محاسبته على ذلك، وإلا فإن العقوبات تصبح لها أهداف أخرى؛ ليس من بينها صناعة السلام في السودان، ولا إنقاذه من عواقب التقاتل بين الفريقين.

والمفارقة أن الرئيس الأميركي لما شعر بعد 6 أشهر بأنه عاجز عن صناعة السلام بين الروس والأوكرانيين، راح يتحدث عن أن بوتين خدع بايدن، وأن هذه حرب بايدن وليست حرباً تخصه هو في موقعه. وهذا حق يراد به باطل. أما الحق فهو أن الحرب اشتعلت أيام بايدن، وأنه كان يستطيع منع إضرامها، أو وقفها بعد أن اشتعلت، وأما الباطل فهو توقيت فرض العقوبات على الجيش؛ لأن هذا ليس وقت البحث عمَّن أشعل الحرب أو سمح بإشعالها، وإنما هو وقت البحث عمَّن يستطيع إخماد نارها.

وليس إخمادها في قُدرة مسؤول في العالم، بقدر ما هو في قُدرة الرئيس الأميركي، ولكن المشكلة أنه يتعامل مع الحرب في غزة، وبين روسيا وأوكرانيا، بعقلية رجل الأعمال الذي يقيس كل خطوة بمكسبها في جيب بلاده، أو جيب إسرائيل، ولا يقيسها بشيء آخر. إنه يفعل ذلك متسقاً مع الفلسفة البراغماتية التي هي فلسفة أميركية في أصلها، والتي أسست لمبدأ النظر إلى كل شيء على أساس العائد الذي سيرجع من ورائه وفقط!

وإذا كان هذا هو مسلك ترمب، وإذا كانت هذه هي سياساته، وإذا كانت هذه هي عقليته، فلا بأس، ولكن ليس من حقه أن يزاحم أو ينافس على «نوبل للسلام»، وإلا، فإنه يضع نفسه في مكان صاحب «حتى» في اللغة، فلا يكتفي بما حققه على المستوى السياسي، والمادي، وإنما يظل يتطلع إلى «نوبل» وفي نفسه شيء منها، ثم لا يكون له إلا ما كان لصاحب «حتى» في زمانه!

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط