د. ياسر عبد العزيز يكتب: «السوشيال ميديا» العربية... وأربعة عناوين عبثية

خلال الأسبوع الماضي، أنفقتُ وقتاً كبيراً في استعراض مئات المنشورات والفيديوهات التي يتداولها الجمهور العربي، على وسائل «التواصل الاجتماعي» الرائجة، وتحليلها، والتعرف إلى مصادرها، بقدر الإمكان.
وبعد استبعاد كثير من أنماط المحتوى الغارقة في الانشغالات المحلية، وكذلك التي تخص أحداثاً جارية، أو تتبنى خطاً إخبارياً محايداً، أو تعالج شؤوناً ترفيهية وتسويقية، أمكنني أن أرصد أربعة عناوين كبيرة تحفل بها هذه الوسائل، ويُخصص لها متعاملون قدراً كبيراً من الاهتمام والتفاعل.
وقد خلصتُ إلى أن تلك العناوين الأربعة -التي هيمنت على قدر كبير من التفاعلات العربية البينية- هي على التوالي: العداء بين الشعوب العربية، ومراجعة السرديات الكبرى، والتعصب والتنابذ الدينيَّان، ثم الصراع على المكانة.
لا أزعم أن هذه النتيجة التي توصلت إليها محصلة بحث علمي توفرت له الشروط المنهجية اللازمة، ولا أدعي أيضاً أن اختياري لتلك العناوين بالذات منقطع الصلة عن ملاحظات سابقة أثارت فضولي، ودعتني إلى مواصلة البحث في هذا الصدد. ولكن ما أؤكده هنا هو أن تلك العناوين تعبِّر عن حالة موجودة ورائجة، وأنها تنتظم ضمن منهجية واضحة، وأنها مستدامة، ومُتصاعدة، وتستحق بحثاً مُركزاً وجاداً؛ لأن أثرها كبير، وتداعياتها وخيمة.
وبخصوص العنوان الأول، سيُمكن تأكيد أن حالة «عداء اصطناعي» عربية تبرز بوضوح على هذه الوسائل، وفي تلك الحالة ينخرط آلاف المستخدمين في حروب عبثية ومبارزات شوفينية متدثرة بدعاوى وطنية، بزعم الانتصار لدولة ما، ومواطنيها، في مواجهة الآخرين... والآخرون هنا هم العرب الذين ينتمون إلى دولة -أو دول- أخرى.
وفي هذا الصدد، فإن مستخدمين معروفين أو مجهولين ينتمون إلى دولة ما، سُيسخِّرون وقتاً وجهداً وموارد كبيرة -يبدو أن بعضها نتاج عمل مؤسسي- من أجل الانتصار لفكرة محددة؛ وهي: نحن أصلاء، وبارعون، وناجحون، وأوفياء، ومتدينون، وأنتم لقطاء، وعاطلون عن المواهب، وفاشلون، وخونة، ومنحلُّون أخلاقياً. وضمن تلك المُلاسنات، ستُستخدَم أبشع الأوصاف في حق مواطني الدولة/ الدول الأخرى، وسيوصَمون بأوصاف عنصرية، تتضمن تشكيكاً في أخلاقهم، واستباحة لأعراضهم، وتلطيخاً لسمعتهم.
وأما العنوان الثاني، فيتعلق بمراجعة السرديات الكبرى، ونقضها، أو التشكيك فيها، وبذل جهود كبيرة من أجل إيجاد سرديات بديلة. ومن أمثلة ذلك: ما يتعلق بموقف تلك الدولة من القضية الفلسطينية، أو ذلك الشعب من الدين الإسلامي، أو حقيقة انتماء هذه الجماعة إلى «الأمة»، أو مدى شرعية هذه الحكومة أو هذا النظام.
ويختص العنوان الثالث بمسألة التنابذ الديني؛ إذ تظهر حروب مشتعلة بين اللادينيين والملحدين من جانب، وأتباع الأديان -وخصوصاً الدين الإسلامي- من جانب آخر. وفي هذا التنابذ، ستُقدَّم أكثر الأمثلة وضوحاً على ازدراء الأديان، وتحقير الرموز المقدسة، وانتهاك مشاعر المتدينين، بزعم حرية الرأي والتعبير. كذلك سينخرط مسيحيون مع مسلمين في سجال عبثي حول طبيعة الدينَين، ومدى جدارة كل منهما بالاتباع، بموازاة معركة لا تهدأ أبداً بين مسلمين من أتباع المذهب السني مع آخرين من أتباع المذهب الشيعي، وفي تلك المعركة ستُسخَّر أدوات التزييف والاصطناع، لنصرة كل من الجانبين، وكذلك ستُنتهك قواعد الاستخدام الرشيد لهذه الوسائل، وأي وسائل أخرى.
وأما العنوان الرابع، فيُعدُّ تعبيراً سمجاً ومأفوناً عن حالة التنافس السياسي بين بعض الدول العربية التي هي حالة طبيعية يمكن أن تنشأ حتى بين الدول المُتحالفة. وبدلاً من تناول هذه الحالة بالموضوعية اللازمة، فإن بعض المستخدمين ينخرط في مناوشات عبثية تحول هذه الحالة الطبيعية إلى معادلة صفرية.
وفي تلك المعركة العبثية ستُستدعَى أمثلة وحكايات من التاريخ، وسيُصطنع بعضها أو جوانب فيها، من أجل إثبات صحة موقف ما، أو البرهنة على تقييم معين.
لقد بات واضحاً أن التصميم السلوكي لوسائل «التواصل الاجتماعي» يعتمد على استغلال الغرائز البدائية للمستخدمين؛ وعلى رأسها التعصب، والغضب، والاستعلاء، وتعزيز الانتماءات التقليدية.
ولأن أنماط التفاعل على هذه الوسائل بُنيت لكي تُعزز الرواج، ومن ثم الربح، على حساب السلامة المُجتمعية، فإن خطابات التعصب والكراهية والحس العنصري والشوفيني تزدهر عبرها، وتحظى بأكبر قدر من الاهتمام.
لا يحتاج العالم العربي في هذا الوقت بالذات إلى مزيد من مراجعة السرديات الكبرى، ولا التنابذ الديني، ولا العداء بين الشعوب العربية، ولا تحديد مكانة كل دولة في مراتب النفوذ الجيوسياسي، ولكن هذا ما قررته «السوشيال ميديا» لنا، وهذا ما انخرطت فيه جهات «مجهولة»، وكيانات «مُستحدَثة»، وقطاعات من المستخدمين الذين أرادوا لنا هذا العبث والتفتت.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط