احتفالات عيد الاستقلال في الولايات المتحدة.. مزيج من التاريخ والعروض والسياسة

يُعد يوم 4 يوليو من كل عام أحد أكثر المناسبات رمزية وأهمية في التاريخ الأمريكي، فهو ليس مجرد عطلة وطنية، بل احتفال بهوية وطنية ترسخت عبر أكثر من قرنين.

ففي هذا اليوم من عام 1776، أعلن ممثلو 13 مستعمرة أمريكية استقلالهم عن التاج البريطاني، عبر "إعلان الاستقلال" الذي كتبه توماس جيفرسون، لتبدأ بذلك قصة قيام دولة أصبحت واحدة من أكثر القوى تأثيرًا في العالم.
ومع مرور الزمن، تحوّل هذا التاريخ إلى مناسبة وطنية ضخمة تمتزج فيها المشاعر الوطنية بالاستعراضات العسكرية، والأنشطة الثقافية، والعروض النارية المبهرة، بالإضافة إلى الخطابات السياسية التي لا تغيب عن المشهد.

احتفالات من أقصى الشرق إلى الغرب
في كل ولاية أمريكية، ومن أقصى الشرق إلى الغرب، تُقام فعاليات احتفالية متنوعة، تبدأ عادة من الصباح وتستمر حتى ساعات متأخرة من الليل. تتزين الشوارع والساحات بالأعلام الحمراء والبيضاء والزرقاء، وتُنظم مسيرات شعبية يشارك فيها المحاربون القدامى، ورجال الإطفاء، وطلاب المدارس، وجوقات موسيقية تعزف ألحانًا وطنية.
وتُعد عروض الألعاب النارية من أبرز مظاهر الاحتفال، إذ تضيء السماء فوق مدن كبرى مثل نيويورك وواشنطن العاصمة ولوس أنجلوس، في عروض ضخمة يُنفق عليها ملايين الدولارات، ويتابعها الملايين سواء ميدانيًا أو عبر البث التلفزيوني.
كما تُنظم حفلات موسيقية تحييها أشهر الفرق والعازفين، حيث يؤدي النشيد الوطني وأغاني مثل “God Bless America” و“America the Beautiful”، في مشهد يحاكي ما يشبه "الطقس المقدس" للجمهور الأمريكي في هذا اليوم.

البيت الأبيض: رمزية سياسية واحتفالات رسمية
الرئيس الأمريكي يلعب دورًا مركزيًا في احتفالات الاستقلال، من خلال حضوره الرسمي في الاحتفالات التي تُقام في البيت الأبيض أو أمام النصب التذكارية الكبرى في واشنطن. وتشهد هذه المناسبة عادةً كلمات رسمية من الرئيس يوجه فيها رسالة وطنية توحد الأمريكيين، وتبرز التحديات التي تواجه الأمة، بالإضافة إلى التذكير بالمبادئ التي تأسست عليها البلاد.
وخلال السنوات الأخيرة، أصبح من المعتاد أن تتضمن الاحتفالات عروضًا عسكرية، مثل تحليق الطائرات المقاتلة والقاذفات فوق العاصمة، في مشاهد تضفي بعدًا استراتيجيًا على رمزية اليوم.
في احتفالات هذا العام، ظهر الرئيس دونالد ترامب إلى جانب زوجته ميلانيا في شرفة البيت الأبيض، أثناء تحليق الطائرات فوق رؤوس الحاضرين، وقد أثارت إحدى اللقطات التي ظهرت فيها لمسة عفوية بينه وبين زوجته تفاعلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي.

احتفالات الشعب: من الشواطئ إلى الحدائق
لا تقتصر احتفالات 4 يوليو على الرسميات، بل تمثل فرصة للأسر والعائلات للاجتماع والاحتفال بطرقهم الخاصة. تقام حفلات الشواء في الحدائق العامة والخاصة، ويخرج الناس إلى الشواطئ أو المتنزهات، فيما تنظم البلديات فعاليات للأطفال، من بينها سباقات صغيرة، وألعاب مائية، وورش فنية ذات طابع وطني.
ويُلاحظ كذلك أن العديد من الأمريكيين يفضلون ارتداء الملابس ذات الألوان الوطنية، ويزينون منازلهم وشرفاتهم بالأعلام والإضاءة الزرقاء والحمراء، في مشهد عام يعكس الانخراط الشعبي الكبير في هذا العيد.
ما بين الاحتفال والانقسام
رغم الأجواء الاحتفالية، لا يخلو يوم الاستقلال من الأبعاد السياسية والاجتماعية التي تلوّن المشهد. ففي ظل الانقسام الحاد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتحول كل مناسبة وطنية إلى ساحة للرسائل المتبادلة، يُستغل هذا اليوم أحيانًا لتوجيه مواقف سياسية، سواء عبر الخطابات أو من خلال رمزية الحضور والمشاركة في فعاليات بعينها.
كما تشهد بعض المدن احتجاجات من جماعات ترى أن الحرية والاستقلال لم تشمل كل فئات الشعب الأمريكي بالتساوي، خاصة ما يتعلق بتاريخ العبودية أو التمييز ضد الأقليات، وهو ما يدفع بعض الأصوات إلى المطالبة بإعادة قراءة مفهوم "الاستقلال" بشكل أكثر شمولية وعدالة.

دبلوماسية ناعمة وعرض للقوة
يُعد عيد الاستقلال أيضًا مناسبة لإرسال رسائل سياسية ودبلوماسية إلى العالم. إذ تُوجّه الدعوات لحضور الاحتفالات لبعض الشخصيات الدبلوماسية والسفراء، في حين تُستخدم العروض العسكرية كوسيلة لإبراز القوة الأمريكية أمام المنافسين الدوليين، لا سيما في ظل التوترات الجيوسياسية مع دول مثل روسيا والصين.
كذلك تنشط السفارات الأمريكية حول العالم في تنظيم فعاليات احتفالية رمزية بمناسبة الرابع من يوليو، كجزء من جهود "القوة الناعمة" التي تعتمدها واشنطن لتعزيز صورتها وقيمها الديمقراطية على المسرح العالمي.

يبقى عيد الاستقلال الأمريكي أكثر من مجرد احتفال. إنه لحظة سنوية يُعاد فيها تأكيد الولاء للمبادئ المؤسسة، وتذكير بقصة ميلاد أمة بُنيت على فكرة الحرية الفردية وحكم الشعب. ورغم التحديات والانقسامات، يظل الرابع من يوليو مناسبة يتوحد فيها الأمريكيون – ولو مؤقتًا – تحت راية واحدة، في استعراض جماعي لهويتهم، وتاريخهم، ومستقبلهم المشترك.