مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

يوسف الديني يكتب: «أزمات العالم وتلفزيون الواقع!»

نشر
يوسف الديني
يوسف الديني

في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس النظام الدولي على جملة من المبادئ القانونية والمؤسساتية، في مقدمتها حظر استخدام القوة وسيلة لحل النزاعات بين الدول. لم يكن ذلك مجرد توافق أخلاقي، بل هو تأسيس لنظام جديد يحدّ من شريعة الغاب التي حكمت العلاقات الدولية لقرون، حيث كانت الحروب والغزوات أدوات مشروعة لتسوية الحقوق وتوسيع النفوذ. غير أن ما نشهده اليوم مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى سدة الحكم لا يبدو تراجعاً عرضياً عن هذه القواعد، بل أشبه بانهيار متعمّد للبنية القانونية التي منحت العالم حداً أدنى من الاستقرار لعقود. لم تعد الحرب شيئاً يجب تجنّبه، بل تُقدَّم من جديد كأنها أداة طبيعية للسياسة الخارجية، يتحدث عنها ترمب كما لو كانت بنداً تفاوضياً على طاولة صفقات عقارية. من تهديده بالاستيلاء على غرينلاند، إلى اقتراح طرد الفلسطينيين والسيطرة على غزة، إلى موافقته الضمنية على ضم روسيا لأراضٍ أوكرانية مقابل وقف النار، كلها إشارات ليست إلى النزوع للعنف فحسب، بل إلى تقويض المبدأ الجوهري الذي يحظر استخدام القوة أو التهديد بها ضد سيادة الدول.

هذا الانهيار القانوني لا يقع في فراغ. إنه يحدث في لحظة تشهد فيها إسرائيل تصاعداً لعسكرة الوحشية وتبريرها، ليس فقط ضد الشعب الفلسطيني، بل ضد فكرة القانون الدولي ذاتها. تُمارس القوة العسكرية بشكل مفتوح لتغيير الوقائع على الأرض، في ظل دعم معلن من ترمب لكن في محاولات لخطف «لقطة» الأضواء في الاستفادة من آثار الجنوح الإسرائيلي الفوضوي. إنها لحظة فارقة يتآكل فيها الإجماع الأخلاقي والسياسي حول تحريم الغزو، ويُعاد إنتاج منطق الغلبة العسكرية بوصفه مصدراً للحق، وهو منطق لطالما جرّ العالم إلى الحروب الكونية، والنزاعات التي لا تنتهي.

في موازاة هذا التحول، تبدو العلاقات الدولية وكأنها تنجرف نحو منطق «تلفزيون الواقع» بنسخته الترمبية، حيث تتقدّم «الشخصنة» على «المأسسة»، وتتحوّل الدبلوماسية من فن إدارة التوازنات إلى عرض عضلات واستعراضات شخصية على مسرح الإعلام. السياسة الخارجية، كما تُدار اليوم في عهد ترمب، لم تعُد نتاج مؤسسات وتحليلات وخبرات، بل هي انعكاس لصورة القائد ومدى قدرته على تجسيد «الرجولة المفرطة» التي باتت مقياساً لشرعية الفعل السياسي، ورأينا كيف كانت تُدار المواجهات كأنها مباريات ملاكمة لا مفاوضات دولية، ويتحوّل التهديد بالحرب إلى وسيلة لإثبات الذات لا لحماية السلام.

لقد أصبحت الدبلوماسية نفسها موضع سخرية داخل المؤسسات الأميركية، ووصِفَت في بعض الأروقة بأنها «لعبة هاتفية»، بينما يتم التباهي بعدد تمارين الضغط التي أُنجزت قبل جلسة تعيين وزاري. في هذا المناخ، لا تعود القيم أو الشرعية القانونية ذات أهمية، بل الأداء الذكوري والقدرة على فرض السيطرة الرمزية، حتى لو كانت النتيجة حرباً بلا أفق. وكما هي الحال في برامج تلفزيون الواقع، لم يعُد تمثيل الدولة فعلاً مؤسساتياً، بل مرآة شخصية لما يُريده القائد أن يكون عليه المشهد، وتحولّت السياسة إلى مباراة غرائز، يربح فيها من يصرخ أعلى، لا من يفاوض أذكى.

لكن في هذا الفراغ، لا يقف العالم على حافة الانهيار وحده، بل تتشكل أيضاً بوادر مشروع نقيض، يُعيد التذكير بقيمة القانون، وضرورة تقييد القوة، وإعلاء شأن الدولة بصفتها مؤسسة لا كأنها حالة ظرفية. في قلب هذا التحول يبرز دور الدول الصاعدة في الشرق الأوسط والمدعومة بمنطق الدولة وعقلاء المجتمع الدولي، وفي مقدمة هذه الدول أستحضرُ السعودية بوصفها نموذجاً صاعداً في العلاقات الدولية، حيث أثبتت بمهارة عالية رغم التحديات القدرة على إنتاج خطاب متوازن يراهن على منطق الدولة، ويدعو إلى ترسيخ مفهوم السيادة، ورفض استباحة الشرق الأوسط كأنه ساحة للتجريب، أو فراغ جيوسياسي يُملأ بالمغامرات والتدخلات مع التمسك برفض أي مشاريع تقويضية عابرة للدول.

هذا الموقف لا ينبع من شعور بالأخلاقية الدولية، بل من واقعية سياسية عالية الحساسية أفرزتها تجارب المنطقة المريرة. فالسعودية، التي عاصرت انهيار العراق تحت ضربات التدخل الأجنبي، وشاهدت كيف تحوّلت أفغانستان إلى مرتع للفوضى بعد عقود من الاحتلال والتجريب الآيديولوجي، تدرك اليوم أن الدولة - بمؤسساتها وحدودها وقوانينها - ليست عقبة أمام الحرية، بل ضمانة ضد الانهيار. ولهذا تدعو الرياض اليوم إلى إعادة تعريف التحالفات على أساس احترام سيادة الدول، والتمسك بالقانون الدولي، لا الخضوع للابتزاز، ولا الانجرار إلى معسكرات تنقلب مواقفها وفق تغريدة أو نزوة سياسية.

والحق يقال إن الرياض وفق مواقفها من أزمات المنطقة الشديدة السيولة والتعقيد أثبتت أنها ضمن أصوات دول الاعتدال والعقلاء في العالم، وتُمارس عملية إنقاذ للنظام الدولي عبر سياساتها الواقعية: من سعيها إلى حلول سياسية في اليمن والسودان، إلى دعمها للاستقرار في العراق ولبنان، إلى رفضها المزايدة في قضية فلسطين رغم كل الضغوط مع خفض التصعيد والوصول إلى مستوى حوار متقدم مع إيران، وهي بهذه المواقف تعيد موضعة دورها الإقليمي بوصفها ضامناً عقلانياً لاستمرار النظام الدولي القائم على القانون، في وجه القوى التي تحاول إعادة تعريف العالم كأنه شبكة مصالح لا قواعد لها.

لا يبقى أمام العقلاء سوى الدفاع عن الدولة والقانون، لا بوصف ذلك مثاليات مجردة، بل لأن ذلك ضرورة تاريخية لحماية منطق الدول وسيادتها وأمنها من تبعات جنون الأنا.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط