د. ياسر عبد العزيز يكتب: «إيران وإسرائيل... أي دور للإعلام؟»

في الحروب أخطار عظيمة، ولكن فيها أيضاً الكثير من الفرص، وكما أن الصراعات الدامية التي تنشب بين الأمم عادة ما تترك ندوباً وجراحاً عميقة، بصرف النظر عن تحقق النصر أو تجرع مرارة الهزيمة، فإنها أيضاً تنطوي على دروس وعبر، سيكون في تقصيها والتعلم منها كثير من الفوائد.
وقد كان المقال الذي نُشر الأسبوع الماضي، في تلك الزاوية ذاتها، للكاتب نفسه، يحمل العنوان التالي: «درس (يونيو) الذي لم نتعلمه»، وهو المقال الذي أشار إلى أن حرب عام 1967 التي خسرتها الجيوش العربية في مواجهة إسرائيل، كانت تنطوي على درس إعلامي مُهم، لا يبدو أن الجانب الخاسر أدركه على نحو ملائم.
وفي هذا الدرس ستظهر أربعة ملامح أساسية للمواكبة الإعلامية العربية للحرب؛ وهي مواكبة اعتمدت صوتاً واحداً غالباً، يمكن تلخيصه في مقولة: «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، ثم إنها انتهجت نهج الحشد والتعبئة، والإفراط في رفع مستوى توقعات الجمهور، كما أنها أغرت بـ«العدو»، وعدَّته هزيلاً ومتهافتاً وقابلاً للخسارة، قبل أن تُمعن في التعتيم والإنكار، عندما بدأت نتائج المعركة تُظهِر التفوق الإسرائيلي والاندحار العربي.
واليوم، يقف العالم مشدوهاً، يتابع بقلق بالغ، ومخاوف متصاعدة، تطورات المواجهة العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية. ورغم أن مجمل الانتباه ينصرف إلى تطورات القصف المتبادل، وخسائر الطرفين، واحتمالات تصعيد النزاع، فإن ثمة فرصة سانحة لاستعراض الأداء الإعلامي المواكب للعمليات الحربية.
وفي هذا الاستعراض، سيتضح لنا أن الإعلام الإسرائيلي انتهج نهجاً مغايراً لذلك الذي اتبعه نظيره الإيراني. ولتقريب الفكرة، سيُمكن القول إن هذا الأخير لم يُظهر فروقاً ذات دلالة عن أداء الإعلام العربي، إبان تغطيته لوقائع حرب الأيام الستة في 1967، في الوقت الذي أظهر فيه الإعلام الإسرائيلي تطوراً واضحاً، وبات أكثر نُضجاً وتعدداً، وبالتالي أكثر موضوعية في مقاربة الحرب، وتغطية أبعادها وتحليلها.
لقد كان الإعلام الإسرائيلي في بداياته أنموذجاً واضحاً لإعلام التعبئة والحشد، فغداة إعلان الدولة، بدأ رئيس الوزراء -آنذاك- ديفيد بن غوريون، بتأسيس عدد من الهيئات والمنظمات التي كانت في مقدمتها «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهي الهيئة التي ألزمت السلطات -من خلالها- جميع رؤساء التحرير في صحف الدولة كافة بالاشتراك في عضويتها، والامتثال لقراراتها.
تحدث بن غوريون -في اجتماع تدشين الهيئة- لرؤساء تحرير الصحف، ليعطيهم ما يمكن وصفه بالتوجيه الاستراتيجي لعملهم، فقال: «يجب علينا أن نزِن أقوالنا، ولا نعطي العدو معلومات، ولا نزرع الفتنة والفوضى في شعبنا».
ستستمر إسرائيل بعد ذلك في الامتثال لتوجيه بن غوريون الاستراتيجي، وستُسخِّر آلة الدعاية والإعلام من أجل الإعلام الحربي، حتى إن رئيس الوزراء اللاحق شارون سيضم إلى صلاحياته سلطة «الرقابة على أنظمة البث»، في عام 2001.
لكن التطورات التي طرأت على أنظمة الاتصال، وحالة الانفتاح والتعدد التي ميَّزت الوسط الاتصالي الدولي والإقليمي والمحلي لاحقاً، ستُجبر الدولة العبرية على إجراء تغييرات جوهرية في تلك الاستراتيجية.
وسيأتي المنظِّرون الإسرائيليون لاحقاً ليطالبوا إعلام الدولة العبرية بـ«كسب العقول والقلوب»، وهنا، ستنشأ وسائل إعلام متنوعة، تغطي مساحة واسعة من اليمين إلى اليسار، وسيتبنى بعض تلك الوسائل خطّاً ناقداً أو معارضاً، وسيذيع أنباء وتحليلات لا تنتظم في سياق الحشد والتعبئة.
ولذلك، فقد أمكن قراءة تحليلات في صحف مثل «هآرتس»، و«جيروزاليم بوست»، ومشاهدة تقارير في قنوات تلفزيونية عبرية، تركز على التشكيك في تداعيات الحرب مع إيران، ولا تشارك في سردية «النصر المُحقق»، وتتساءل عن جدوى الضربات الإسرائيلية، أو تداعياتها المتوقعة، وأبعادها المستقبلية.
وستنقل وسائل إعلام إسرائيلية آراء محللين ينتقدون سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ويحذِّرون من «تأثير تآكل شرعيته داخلياً في القرارات الاستراتيجية والعسكرية للدولة»، وستُذِّكر صُحف عدة بـ«هشاشة الجبهة الداخلية»، ومشكلات «الخدمة العسكرية الإلزامية»، و«تحديات تعبئة قوات الاحتياط».
سيحدث ذلك، بينما الإعلام الإيراني ينتهج الخط الواضح والبسيط: «الحشد والتعبئة، والوعد والتهديد، وتوقع النصر بلا سقف، والإصرار على هشاشة العدو وتهافته، في مواجهة القدرة العسكرية الإيرانية القادرة على الحسم».
لا يستطيع كثير من المحللين، أو الباحثين الجادين، التشكيك في قدرة الإعلام الكبيرة على التأثير في مجريات الصراعات الدولية والحروب العسكرية، ومع ذلك، فإن أحداً من هؤلاء لا يدعم فكرة تحول الإعلام إلى أداة حشد وتعبئة ودعاية في أوقات النزاع؛ لأن وقائع التاريخ أثبتت أن هذا الدور قد يغطي على العيوب والخلل، ولا يُفسح المجال للمراجعة وتصويب السياسات.
الإعلام المُستقل والموضوعي والناقد والواعي يضيف إلى مقدرات الدولة في أوقات الحروب، بأكثر مما تفعل الدعاية الفجة عادة.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.