مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. ظافر العاني يكتب : ‏بين بغداد وحلب

نشر
الأمصار

‏قبل قليل التقيته في مطار دبي، الدكتور عمر حسان، أحد أمهر اختصاصيي الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى فقيه الجامعي بدبي. سبق أن راجعته بعدما فشلت العلاجات التي أعطاها لي غيره من الأطباء . كانت المشكلة هي الالتهابات المستمرة في الحنجرة، فقال لي بعد الفحوصات إن سببها المريء والارتجاع الحمضي، وبدأ علاج المشكلة من الأصل، بينما غيره من الأطباء كانوا يركّزون على العوارض، مكتفين معي بالمضادات الحيوية التي أصبحت غير نافعة لكثرة ما أخذتُ منها.

‏سألته من واقع الصداقة: إلى أين يا دكتور؟
‏أجاب مبتسمًا: عائدٌ إلى حلب.

‏تفاجأت من قراره المتسرّع؛ فهو في المستشفى يرأس القسم، ولديه مرضى ينتظرون أسابيع ليصلهم الدور، ويُعدّ مرجعًا لغيره من أطباء الاختصاص، خصوصًا وأنه في مستشفى تعليمي، وللدكتور عمر مركز اجتماعي ووظيفي يتمناه أي طبيب آخر.

‏سألته: وفي هذا الظرف يا دكتور؟
‏قال بثقة: هو أنسب ظرف، فللجامعة دين في رقبتي، فقد كنت من خريجيها قبل أن أكمل اختصاصي في ميونخ بألمانيا.
‏اعترضتُ كلامه: لكن الظروف يا دكتور ليست...
‏ولم يدعني أكمل جملتي، قال: أعرف أن الظروف ليست مثالية في سوريا، ولكن إن لم أتواجد الآن، فمتى؟ بلدُنا أمامه فرصة للنهوض، ولا أريد للفرصة أن تمر دون أن أساهم فيها.
‏سألته بفضول: وماذا عن العائلة؟
‏قال: ليس بعد. فالأبناء، كما تعرف، نشأوا معظم حياتهم خارج سوريا. لقد جئنا مع بداية الاضطرابات قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا، هاربين من الموت الذي كان يطاردنا، وقد أصبح للأبناء حياتهم الخاصة، وعملهم في بلاد الغربة.
‏قلت: وتذهب لوحدك؟
‏أجابني مهدئًا هواجسي: لا، سأذهب أنا وزوجتي (وأشار إلى السيدة التي تجلس على مقعد في الصالة غير بعيدة عنه، ثم أكمل كلامه): نعود لجامعتنا، وإلى كلية الطب تحديدًا، حيث التقينا أنا وأم خالد على مقاعدها الدراسية، ولو سارت الأمور طبيعيًا سأطلب من الأولاد أن يلتحقوا بنا، ولكني أشك في ذلك.
‏سألته مستفهمًا: لماذا تظن ذلك؟ لعلهم يعودون، ليلتئم شمل الأسرة مجددًا.
‏قال: نحن عائلة تعيش في المنافي. اثنان من أبنائي في ألمانيا؛ أحدهما يعمل مهندسًا في شركة سيارات بي إم دبليو في قسم التصاميم الهندسية، والثاني طبيب أكمل الدكتوراه العام الماضي في نفس اختصاصي، ومن نفس جامعتي. ولديّ ابنتان: واحدة في أمريكا مع زوجها، وهما يعملان في بنك مرموق، والثانية متزوجة هنا في دبي، وتشتغل في إدارة شركة كبيرة.
‏قلت بأسى معلقًا على الوضع المؤسف للدكتور عمر: تطشّرت العائلة!!
‏أجاب، وفي عينيه نظرة حزينة: نحن ضحايا الحروب والظروف السياسية السيئة.

‏تذكرتُ العراق، وأوضاع المهاجرين، والعقول العراقية التي نزفت إلى الخارج، ولم يحن أوان عودتها بعد .

‏أُعلنت إدارة المطار عن قرب مغادرة الطائرة العراقية المتوجّهة إلى بغداد، فاستأذنته مودعًا لإتمام إجراءات السفر، وسألته على عجل:
‏– وما الذي يقوله قلبك الآن؟
‏أجاب من دون تردد:
‏– يقول لي إن الغد أفضل.

‏صافحته، فهزّ يدي بثقة، وقد لاحت في عينيه نظرة تفاؤل، كأنه يرى فجر أمل قادم فدعوت الله في سري أن يحقق أمانيه... وأمانينا.