مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

الطائرات المسيّرة تشعل جبهة بورتسودان.. تصعيد غير مسبوق يهدد آخر معاقل السودان

نشر
الأمصار

دخلت الحرب السودانية، المستعرة منذ أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، مرحلة جديدة من التصعيد الخطير، بعد أن وصلت نيران الصراع إلى مدينة بورتسودان، الواقعة على ساحل البحر الأحمر. 

المدينة التي تُعد المقر المؤقت للحكومة السودانية، شهدت على مدار الأيام الثلاثة الماضية سلسلة من الهجمات بطائرات مسيّرة، نُسبت إلى قوات الدعم السريع، واستهدفت منشآت مدنية وعسكرية حساسة، في تطور يُعد الأول من نوعه منذ اندلاع النزاع.

بورتسودان ليست مجرد مدينة ساحلية، بل هي الشريان الاقتصادي واللوجستي الأهم للجيش السوداني، حيث تضم الميناء الرئيسي للبلاد، والمطار الوحيد المتبقي في الخدمة، ومستودعات الوقود التي تُغذي مناطق الشرق والشمال. 

ومع موجة النزوح الكثيف إليها، أصبحت المدينة ملاذًا لمئات الآلاف من المدنيين، ومقرًا للبعثات الدبلوماسية والمنظمات الإنسانية.

تزامن القصف مع تقارير تؤكد تعليق حركة الطيران من وإلى بورتسودان، واندلاع حرائق كبيرة في مستودعات الوقود، وهو ما يكشف حجم الخطر الذي أصبحت تواجهه المدينة، ويعكس تحوّلًا كبيرًا في ديناميكية المعارك. 

اللافت أن الهجوم الأخير جاء بعد أكثر من عام من اعتبار بورتسودان منطقة آمنة وبعيدة عن مرمى النيران.

وهذه التطورات تطرح أسئلة صعبة حول مستقبل العملية السياسية، ومستقبل الدولة ذاتها، في ظل مؤشرات على انهيار مؤسسات الحكم وازدياد خطر التقسيم الجغرافي، بالتوازي مع صمت دولي يثير القلق، ومأساة إنسانية توصف بأنها "الأسوأ منذ عقدين" على مستوى القارة.

تصعيد في بورتسودان: ضربات دقيقة وشلل للمرافق الحيوية

صباح الثلاثاء، دوّت انفجارات متتالية في مدينة بورتسودان، مصدرها طائرات مسيّرة يُشتبه بأنها تابعة لقوات الدعم السريع، وفقًا لما أكده شهود عيان ومصادر عسكرية. وقد استهدفت الضربات منشآت في محيط ميناء بورتسودان ومستودعات للوقود، ما تسبب في تصاعد أعمدة من الدخان الأسود، شوهدت من مختلف أحياء المدينة.

الهجوم الأبرز استهدف الجزء المدني من مطار بورتسودان الدولي، ما أدى إلى تعليق الرحلات الجوية المجدولة وإغلاق المطار مؤقتًا، بحسب ما أكده مصدر أمني لوكالات الأنباء.

يقول مراقبون إن هذه الضربات تمثل تحولًا استراتيجيًا كبيرًا من قبل قوات الدعم السريع، التي ظلت محصورة سابقًا في معارك مدن الداخل (الخرطوم – نيالا – الأبيض)، لكن يبدو أنها باتت تملك قدرات نوعية تمكّنها من استهداف مناطق خارج سيطرتها وعلى بعد مئات الكيلومترات.

البُعد الاستراتيجي لبورتسودان

وتكتسب بورتسودان أهمية كبرى في المشهد السوداني لعدة أسباب:

ميناء بورتسودان هو الشريان التجاري الرئيسي للسودان، ومنفذه البحري الوحيد.

الحكومة المؤقتة المعترف بها دوليًا تتخذ من المدينة مقرًا لها بعد انهيار العاصمة الخرطوم.

تستضيف المدينة مقرات منظمات الأمم المتحدة والإغاثة الدولية، بما فيها برنامج الغذاء العالمي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

مطار بورتسودان يُعد آخر منفذ جوي فعّال للدولة السودانية بعد تدمير المطارات الأخرى.

تحتضن المدينة أكثر من 700 ألف نازح من مناطق الحرب، بحسب تقارير منسقة الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة.

المشهد العسكري.. انقسام أعمق وتراجع فرص الحسم

على الجبهات الأخرى، يواصل الجيش السوداني محاولاته لاستعادة السيطرة على مدن الغرب والوسط، لا سيما في نيالا وزالنجي، لكن تقارير محلية تتحدث عن استمرار تفوق الدعم السريع في المناطق الحضرية بفضل حرب الشوارع.

 وتقول مصادر عسكرية إن الدعم السريع لجأ مؤخرًا إلى تكتيكات "الضرب والانسحاب"، ما يصعب على الجيش فرض السيطرة الكاملة على الأرض.

ويؤكد محللون أن الهجمات بالطائرات المسيّرة على بورتسودان تؤشر إلى امتلاك الدعم السريع دعمًا خارجيًا تقنيًا، ربما من أطراف إقليمية أو عبر سوق السلاح المفتوحة، وهو ما يُعقّد المشهد الأمني أكثر فأكثر.

كارثة إنسانية تزداد حدة.. وانهيار كامل للخدمات

بحسب تقارير الأمم المتحدة، تجاوز عدد النازحين داخليًا في السودان 9 ملايين شخص، بينما لجأ أكثر من 4 ملايين آخرين إلى دول الجوار مثل مصر، تشاد، جنوب السودان وإثيوبيا. 

كما تؤكد التقارير أن نحو 18 مليون شخص يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، من بينهم أكثر من 3 ملايين طفل مهددون بسوء التغذية الحاد.

المنظومة الصحية منهارة في معظم المناطق، والتعليم متوقف تمامًا في أكثر من 80% من المدارس، كما توقفت برامج التحصين ضد الأوبئة، مما يهدد بظهور موجات من الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.

غياب أفق سياسي.. وتحذيرات من التقسيم

رغم عقد عدة جولات حوار في جدة وأديس أبابا خلال الأشهر الماضية، فإن المساعي السياسية لا تزال متعثرة بسبب غياب الثقة بين طرفي النزاع، ورفض كل منهما الاعتراف بالآخر كشريك في مستقبل الحكم.

وتحذر تقارير بحثية من أن استمرار غياب الحل السياسي وامتداد النزاع إلى مناطق جديدة، قد يُفضي إلى تقسيم فعلي للسودان، بين مناطق تحت سيطرة الدعم السريع في الغرب، وأخرى يسيطر عليها الجيش في الشرق والشمال، مع تحولات قبلية خطيرة قد تُغرق البلاد في حرب طويلة الأمد على الهوية والنفوذ.

السودان على حافة الانهيار

ما يحدث في بورتسودان ليس مجرد حادث أمني عابر، بل مؤشر على تحوّل كبير في مسار الحرب السودانية، فالمدينة التي كانت توصف بأنها "الملاذ الأخير" لم تسلم من لهيب الصراع، ومع تصاعد الضربات، وتعليق الرحلات، والدمار الذي طال البنية التحتية، فإن السودان يواجه مرحلة أكثر خطورة من الفوضى والانقسام.

وإذا استمر هذا التصعيد دون تدخل دولي حاسم أو مسار سياسي واضح، فإن البلاد تتجه نحو مزيد من الانهيار، في واحدة من أخطر الكوارث الجيوسياسية والإنسانية في القرن الإفريقي.