مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

أحمد محمود عجاج يكتب: «ترمب إمبراطور العالم... والمستقبل الغائم»

نشر
أحمد محمود عجاج
أحمد محمود عجاج

حرص كل أباطرة روما أن يحبهم العامة لمعرفتهم بأنهم قد يصبحون في لحظة كراهية خطراً يطيح بعروشهم، فجهدوا لإقناعهم بأنهم يقاتلون أعداءهم في الداخل والخارج. هذه السردية طوّرها الرئيس ماوتسي تونغ فقال لأنصاره: «اعرفوا عدوكم واعرفوا صديقكم». طبعاً المقصود بعدو الداخل النخب التي صوّرها ماوتسي تونغ عدو الشعب، والعدو الخارجي ليس صعباً تحديده لدولة تريد أن تتوسع. هذا بالضبط ما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترمب عندما حدد نخب الداخل الليبرالية بأنها عدو الداخل، والصين ودولاً من العالم بعدو الخارج. ولكي يسترجع مجد أميركا حرَّض أكثرية الأميركيين ضد الليبرالية والعولمة، وهاجم الصين بشدة، ومعها دول صديقة تستغل أميركا. وطلب من الأميركيين الصبر؛ لأن معركته مع هؤلاء طويلة، ولكن النصر سيكون حليفهم.

داخلياً، استطاع ترمب تحقيق ما لم يحققه أباطرة روما؛ أقام الدنيا وأقعدها في مائة يوم من حكمه، ولم تسقط لأميركا قطرة دم واحدة؛ فقد تعلم ترمب من فترة رئاسته الأولى أن الإمبراطور لن يصبح إمبراطوراً ما لم تكن لديه نخب تحبه وتخافه، كما قال ميكافيلي في نصيحته للأمير: «أفضل لك أن يحبوك ويخافوك»، ولكن إذا كان ثمة اختيار بينهما فإنه الأسلم لك «أن يخافوك»، لكنه حذره من ألا يتحول الخوف إلى كراهية. هذه المعادلة أتقنها ترمب؛ فكل وزرائه ومستشاريه يحبونه ويخافونه؛ لأنهم يعرفون إذا ما خالفوه فسيخرجهم من السلطة ويطاردهم خارجها؛ فهو لم يتردد أن ينزع الحماية الأمنية عن مسؤولين سابقين مهدداً حياتهم، وأجبر شركات المحاماة الكبرى التي خاصمته على الخنوع أمامه، بل تجاهل حتى قرارات المحاكم الأميركية بتبرير أنه يدافع عن الشعب الذي انتخبه، ثم قلب المؤسسات رأساً على عقب، بهذا السلوك غير المعتاد في أميركا، ولم تتراجع شعبيته، بل بقيت الطبقة العاملة مؤمنة به؛ لأنه يحارب النخب التي صوّرها بأنها قوّضت رفاهيتهم وضيّعت وظائفهم؛ فقد شاهدوا بأم أعينهم كيف أجبر كبار مالكي شركات «فيسبوك»، و«بلاك روك»، و«أمازون»، وغيرها، على استثمار المليارات في أميركا، وليس خارجها كما كانوا يفعلون بحثاً عن الربح السريع. ترمب نال نصرَين: أرضى جماهيره، وكسب رجال المال بالتهديد وبإغرائهم بمعونات وتخفيضات ضريبية.

خارجياً، لم ينكث وعوده: فرض رسوماً جمركية على الجميع وبنسب عالية جداً، فاهتزت الأسواق المالية، فخفّفها على فريق ورفعها على آخر مثل الصين، ودعا للتفاوض، وكان حتماً أن يأتوا؛ لأن أميركا هي السوق المستهلكة لبضائع العالم ضمن معادلة ثبتها كيسنجر بأن تزايد العجز في الميزان التجاري ليس مشكلة ما دام التعامل الدولي بالدولار؛ فعوائد العالم من الدولارات تعود إلى أميركا لتستثمر في أسواقها، وعقاراتها، ثم تُصدّر أميركا الدولار من جديد للعالم. لكنه يريد الآن تغيير تلك المعادلة بخفض الاستيراد، وتخفيض الدولار مع إبقائه عملة التداول العالمية؛ بهذا يريد أكل الكعكة والاحتفاظ بها، وهذا مستحيل!

وفي أوكرانيا أذهل الأصدقاء والأعداء؛ فأغرى الروس وعادى الأوروبيين، فأدرك قادة أوروبا عمق الخلاف معه؛ لم يعودوا يتلاقون في الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا في مفهوم الأمن بعدما كشف أن روسيا ليست خطراً على أوروبا، بل الخطر في قيم الليبرالية. ولكي يستقطب بوتين ضغط على أوكرانيا، وأجبرها على توقيع شراكة تجارية في مناطق النزاع مع روسيا، تمنحه منافع استثمارية، وتجبر أوكرانيا على دفع مشتريات السلاح لتدافع عن نفسها؛ بهذا تخفف من عبء الحرب مالياً، وأجبر أوروبا على التفكير بأمن أوروبي ذاتي؛ فحقق ما عجز عنه رؤساء أميركيون بدءاً بجون كيندي وانتهاء بجو بايدن؛ فأوروبا الآن تدرس تشكيل حلف عسكري أوروبي لمواجهة روسيا بلا أميركا، وروسيا قبلت أن تتقدم أميركا إلى حدودها من خلال اتفاق الشراكة الأميركية - الأوكرانية للاستثمار، رغم تبرير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحربه ضد أوكرانيا بإبعاد أميركا عن حدوده. هكذا غيّر ترمب بوتين وأوروبا، ولصالحه.

في الشرق الأوسط تمكن ترمب من تغيير المعادلة، وأجبر إيران على التفاوض، وقطَّع أوصال ميليشياتها، وتواصل مع تركيا والخليج لضمان منطقة آمنة تحت مظلة أميركية من دون جنود أميركيين، ويركز الآن على حل النزاع العربي - الإسرائيلي لنيل جائزة «نوبل للسلام». وفي الصين يتابع محاصرتها اقتصادياً، ولن ينجر لمعركة عسكرية معها؛ لأنه يدرك المخاطر؛ فقد قال مرة لجون بولتون، مستشاره السابق للأمن: «انظر جون إلى هذه المبراة الصغيرة، وإلى الطاولة؛ الأولى تايوان، والثانية الصين»؛ بهذا قصد القول إن الجغرافيا تفرض نفسها، وعبثاً تغييرها بالقوة من أجل مبراة صغيرة.

ترمب في مائة يوم من حكمه هزّ العالم، وغيّر ثوابته؛ فالأصدقاء أصبحوا أعداء، والأعداء يتحولون لأصدقاء، والمستقبل لا يمكن التنبؤ به؛ لأن التاريخ علمنا أن عالماً يحكمه أباطرة عالمٌ غائم وخطير جداً.

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.