رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

العراق ما بعد حراك تشرين 2019

نشر
الأمصار

 

كانت شوارع وساحات العراق، تشهد حشودًا من الشباب خرجت احادا وزرافا مطالبة بإصلاحات شاملة، يصرخون بحماس وشغف بضرورة وضع حد للفساد وسوء الإدارة التي دفعت بلدهم إلى تدهور بالخدمات العامة وانخفاض مستويات المعيشة وارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى من 13 إلى 14 % بحسب بيانات شبه رسمية، واعتبرت هذه الاحتجاجت هي الوسع في تاريخ العراق الحديث، والتي اطلق عليها “ثورة الوعي ” أو ” ثورة تشرين ” ،واعتبرت الأوسع انتشار في تاريخ العراق بعد ثورة 1920 وهي الأقرب إلى ثورة مايس 1941 من حيث الأكثر دموية والأكبر تدخلًا دوليًا، ومن حيث المطالب المرفوعة والأقوى لأنها حددت أطرًا لنهاية النظام السياسي الحالي.

أن غضب الجماهير العراقية وخصوصًا الشباب منهم أمر مفهوم، إنهم يشعرون أن الإهمال وسوء المعاملة قد وصلا إلى درجة فاقت الحدود، ليس من الممكن التزام الصمت، بل يجب تقديم المسؤولين عن ذلك التدهور إلى العدالة حيث ظهرت عدة مصطلحات أطلقها المحتجون ، لكن ما يثير الاهتمام بشكل خاص في هذه الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة،هو دعوتهم إلى إنهاء نظام الحكم المذهبي وفقًا لتقسيم المناصب السياسية والمقاعد البرلمانية وغيرها من المناصب الحكومية على أساس الحصص الطائفية المحددة، إنه نظام يمنح الزعماء الدينيين نفوذاً هائلاً في عمليات صنع القرار وصياغة السياسات العامة.

وجاء الخطاب السياسي الجماهيري يحمل بصمات متعددة، خلا بالكامل من النبرة الطائفية والعرقية رغم أن جزء من الجماهير العراقية لم تك مشاركة بشكل مباشر ” السنة والأكراد” وجاء هذا الخطاب عراقيا خالصًا، بعد أن كان يشكو التشتت والتناقض والاستفزاز في المفردات وفي الأفكار العامة من جهة، وبشكل موضوعي والحقيقي لقراءة الأحداث والتحولات برزت سمات هذا الخطاب ما بعد أكتوبر تشرين 2019 على الشكل التالي:.

  • جاء الخطاب في الغالب معتمدًا على ردات الفعل، وغير مبادرا في صنع رؤية سياسية واضحة، فهو إنفعالي بامتياز وغير خاضع لنتائج التخطيط أو الدراسة والمنهجية ومن أسباب ذلك كون اغلب المنظومة السياسية إلا ما ندر لا تملك التجربة الفعلية لا كسياسيين وليس لها خبرة في الأدب السياسي العام، وهو ما جعل الخطاب السياسي تخويني واستفزازي للشارع المنتفض في اغلب الوقت .

  • جاء أيضا الخطاب في الغالب أرتجالي ومحدد وذا نظرة قاصرة على محدودية الوضع، لم يستغرق الخطاب بشكل تفصيلي وواضح ومحدد كل الإشكالية السياسية وظروف التحول، فهو خطاب أني مرحلي وفيه قاصرا زمنيا ومكانيا.

  • ظهربشكل واضح عشوائية في تعاطي النخب السياسية ، مع متغيرات الأحداث التي أظهرها الحراك الجماهيري غير مسبوق، جوبه بالحديد والرصاص،في ماقبل عدم التناغم مع التوجهات الأجتماعية العراقية في التحرر من الهيمنة الخارجية ( ايران – امريكا ) ونتائجه ومن عبء الفترة الماضية، وخضوعه لحساسية الموقف من إثارة قوى الأحتلال أو الأطراف الإقليمية المساندة أو الداعة لهذا الخطاب، ويحمل كل التناقضات بين طرفي المعادلة العراقية ايران وقواها المؤيدة وأعداءها..

  • ظهر الخطاب السياسي عقب الاول من تشرين وما تلاه من احداث ، ظهربانه لا يملك القدر الكافي من الحرية في أن يطرح مشروع وطني، غير متأثرا بالتنازعات والصراعات على المغانم والمكاسب الحزبية، واظهرعدم قدرته على بلورة رؤية عراقية صميميه خالصة تناسب المرحلة وتؤسس لمرحلة ما بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي ، والظاهر أن صراع الإرادات سيمضي في تكبيل هذا الخطاب في حدود خدمة الأهداف والمخططات الخارجية دون أن ينظر لمصلحة العراق الكلية.

  • ظهر الخطاب السياسي تعيسا في ناحية الجانب الرسمي، الذي يبدأ من رئاسة الدولة ومرورا لأصغر متحدث رسمي واظهر الفئوية المتعالية على الحس الوطني، برغم أن الجميع يردد وبلا خجل أو مواربة أنه ضد الطائفية السياسية أو العنصرية الفئوية، ولكن الجميع يمارسها علنا وتحت مشروع التخندق والتجاذب.

  • وبرغم من مرور أكثر من نحو 5 اشهر، ما زال الخطاب السياسي العراقي الرسمس متخلفا وغير ناضج وقليل الوعي بأسس المخاطبة السياسية ولعبة المصالح، وما زال أيضا يتخبط بأرتجالية غير مفهومة وغير قادرة على طرح رؤية مشتركة تمثل العراق الموحد، والسبب في الغالب كون النظام السياسي العراق ومنذ تأسيسه بعد الأحتلال أعتمد على لغة الأنا وفارق مفهوم المجتمع الوطني ، هذا المجتمع الذي شكل بدروه خطابا سياسيا اكثر واعيا وفهما للحالة العراقية ، والتماهي مع الحراك الشعبي ، والذي شكل خطبا فوق خط فهم صناع العملية السياسية في العراق.

أن غالبية المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات،الأخيرة في العراق هم من خلفيات الطبقة الوسطى، التي تآكلت في السنوات الاخيرة بشدة بسبب آثار سوء الإدارة وعدم الشفافية والمساءلة والاستحواذ المحموم للسلطة، هذه الطبقة جاء من رحمها الأجيال الجديدة من الشباب الأكثر اتصالاً بالعالم الخارجي والذين نجد بينهم تحولًا متناميًا من الوعي الذي تشكله الولاءات الطائفية إلى تلك التي تتبنى قيمة العيش في مجتمع يشارك فيه جميع أفراد متساوون في الحقوق والواجبات، وهنا نجد الدافع وراء مطالب إعادة تنظيم الحكومة بطرق تجعلها أكثر عدلاً وأكثر فاعلية من خلال الحد من التأثيرات الطائفية التي تعزز الاستثناءات من القواعد وتسهل الفساد.

وبالرغم من ذلك، سارعت الحكومة في العراق إلى الإعلان عن حزم الإصلاح واتخاذ خطوات لمحاربة الفساد، فقد تغير شيء ما في العقلية العامة للناس: حيث يرفضون ابتلاع المهدئات التي يتم تسويقها باسم الإصلاح في حين أن مثل هذه الإجراءات قد استهدفتها في الماضي ، إلا أن الناس يدركون الآن أنها لا تعالج الطائفية في قلب النظام الذي يعد العقبة الرئيسية أمام أي عملية حقيقية للإصلاح السياسي والاقتصادي، وعلى خلفية الظروف الإقليمية الحالية، ليس هناك ما يضمن أن تسفر حركات الاحتجاج في العراق عن النتائج التي تطمح إليها أغلبية الناس، فهناك عدد من العوامل التي تقاوم تلك المعاداة الطائفية لحركتهم. وفوق كل شيء ، فإنها تواجه النفوذ القوي للقوات الموالية لإيران في العراق.

ان على الخطاب السياسي العراقي الحالي ان يكون واقعيا أكثر، وان يمثل دورا محوريا فاعلا في الإقليم والمنطقة، وان لا يؤثر في صياغة مفهوم الأمن الإقليمي وذلك للتعاون في بناء سلام حقيقي يتيح لشعوب المنطقة أن تتعايش في واقع مشترك متحررا من تأثيرات القرار الأجنبي، وذلك لتعزيز دور العراق في المجتمع الدولي , ومنها حقه في استعادة الدور الريادي والقيادي في المنظومة الإقليمية والعربية وصولا لتعزيز دوره في الحوار العالمي وصنع السلام بما دفعه من تضحيات في محاربة داعش والانتصار على قوى التكفير والإرهاب والتطرف، وتأطير هذه الأفكار بخطوط عامة تمثل رؤية واقعية وممثلة بصدق لطبيعة الدور العراقي وأساسياته في المنطقة .

كما أن النقطة الثانية التي تعزز من دور العراق بالخطاب السياسي هو مشروع وطني حديث يخلو من النازعات والصراعات الطائفية والتحول إلى مركزية الهوية الوطنية العراقية الحاضنة لجميع الأطراف وذلك لحماية المصالح الوطنية كهدف أساسي ثم ترتيب الأولويات بعد ذلك طبقا لما يتعلق منها بقضيتي الأمن القومي للعراق ومصالح الشعب الاقتصادية، والتخلص من التصادم الغبي مع أطراف لمن يجني من هذا التصادم سوي الخسائر المتراكمة التي تثقل كاهله بمزيد من الالتزامات والقيود.

أن فترة ما بعد الاحتجاجات هي فترة مفصلية في تاريخ العراقيين، فهل سيستخلص العراق الدروس المستفادة من هذا الحراك بما يتجاوز أخطاء التجارب الماضية في اختيار طبقة سياسية اكثر وعيا وفهما للشارع ؟، وهل يمكن لهذه الاحتجاجات الاستمرار في تقديم مسار مستقل بعيدا عن التجاذبات الايرانية والامريكية، وبما يعني إعادة بناء النظام السياسي ؟، وهل يمكنها المواجهة المباشرة مع قوى تمتلك السلاح و القوة و السلطة و تتهمها بانها مؤامرة أمريكية لتغيير نظام الحكم ؟، وهل ستستمر في تأثيرها وفرض شروطها على المرحلة المقبلة ؟

أسئلة تحتاج الى مراجعة، وإذا توصل العراقيين الي إيجاد خطاب سياسي واعي يتيح كافة الحلول لجميع الأطراف وقتها يصبح الأمل ممكنا في أفق سياسي عراقي وطني يملك استقلاله وقراره السيادي خارج الأطر التقليدية التي أثبتت عجزها جميعا في بناء عراق موحد يصلون به إلى بر الديمقراطية المنشودة.