مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. دريد عبدالله يكتب: الثقب الاسود والكهرباء العراقية

نشر
الأمصار

عندما تسمع المواطن في بغداد او في المحافظات العراقية وهو يصف معاناته اليومية من سوء كفاءة المنظومة الكهربائية المحلية وتكلفة شبكة المولدات الاهلية الباهظة في بلدٍ كان اول مُصدِّر في الشرق الأوسط للكهرباء المنتجة محلياً الى خارج حدوده. 

عندما تسمع كل ما سبق ستتساءل عن الوضع الذي وصلت اليه تلك الشبكة الحكومية الكهربائية لتصبح الثقب الأسود لدولة كالعراق و كيف تحاول البقاء على قيد الحياة ؟ وعلى حساب من؟               

يمتلك العراق 75 محطة حكومية و9خاصة لتوليد الكهرباء والتي تنتج بمجموعها حوالي 18 جيجا واط سنوياً منها 4.3% هي استيراد من كردستان ودول الجوار لتصل 40% فقط من الكميات (المنتجة والمستوردة) الى محطات التوزيع وهذا يعني أن خسائر التوليد والنقل والتحويل والسرقة تصل الى 60% اي ان 42 مليون مواطن عراقي يحصلون فقط على 7.3 جيجا واط صافي حقيقي وهذا الرقم الفقير هو الذي يجعل انقطاع التيار الكهربائي حتمي لأكثر من 12 ساعة يومياً خصوصاً في أوقات الذروة

الشيء الاغرب في الكهرباء العراقية هو الاستهلاك الغير طبيعي لكافة أنواع الوقود، فمثلاً: لإنتاج 4.5 جيجا واط(فقط 25% من الإنتاج الكلي) في سنة 2023 من المحطات البخارية والديزل ، عمل العراق على تشغيل (26 محطة مختلفة) والتي استهلكت وقود بكمية 69 مليون برميل من نفط الخام مع 7.2 مليون طن من المنتجات النفطية(بتكلفة 10.2مليار دولار) وهي كميات ضخمة يمكن استبدالها بغاز مستورد إضافي (لإنتاج نفس كمية الطاقة) لكن بثلث الثمن فقط لتصبح الكهرباء العراقية اكثر قطاعات الدولة الحالية استهلاكاً للوقود بعد قطاع النقل. 

في يوم الثلاثاء الموافق 30-4-2019 وقع وزير الكهرباء السابق لؤي الخطيب اتفاقيات تنفيذية مع شركة (SIEMENS) الالمانية بحضور المستشارة الألمانية ورئيس الوزراء العراقي وبعدها بعدة أشهر وقع كذلك مع شركة (GE) الامريكية بدعم حكومي أوروبي و امريكي جدي كون كعكة الكهرباء العراقية ستكون كبيرة على قطب واحد منهم ومع دخول الطرف الايراني كلاعب أساسي اضافي في تلك الكعكة من خلال تجهيز الغاز التي تحتاجه محطات التوليد (الحالية و جزء من المستقبلية) ومع جمع كافة الاطراف في مشروع واحد ضخم وهو ما جعل المراقبون يتوقعون ان مشاكل التجهيز الكهربائي في العراق ستكون (قريباً) من الماضي وهذا الذي لم يحدث طبعاً نتيجة انعدام التخطيط وسوء التنفيذ الفوضوي والبيروقراطية الكاملة مع ترهل غير معقول في هيكلية الوزارة والشركات التابعة لها بالإضافة الى نقص كارثي في شبكات النقل ونقص محطات التحويل وعدم وضع المحطات الجديدة في الاماكن الصحيحة وتقادم أليات التوزيع مع انعدام شبه كامل لأنظمة مقاييس الاستهلاك (الميكانيكية منها حتى) وشيوع أسلوب الجباية التقليدي وفساده الطاغي مما جعل المنظومة الكهربائية العراقية من اسوء 3 منظومات على وجه الأرض مع خسائر طاقة تصل الى 60% من الكمية المنتجة  والذي أدى الى ان واردات الشبكة السنوي للعراق لا تتخطى 2مليار دولار نهاية عام 2023 والتي تعتبر الأكثر خسائر و الأقل فعالية في نطاق الشرق الأوسط و شمال افريقيا وحتى العالم

يحتاج العراق سنوياً الى حوالي 24 مليار م3 من الغاز الجاف (لتوليد الكهرباء) إذ ان 45% من تجهيز الغاز الحالي هو مستورد يأتي من إيران بواسطة انبوبين بينما الباقي هو انتاج محلي لكن المشكلة هنا هي في ان ما يصل اليوم من الغاز الجاف (المحلي+المستورد) للمحطات لغرض انتاج الطاقة الكهربائية لا يمثل سوى 83% من حاجتها الفعلية الحالية بتكلفة سنوية تصل الى 6.5 مليار دولار (بين محلي ومستورد) بالإضافة لكون العراق لا يملك خزين غازي استراتيجي (جوفي وسطحي) يمكنه من سد فجوة التذبذب الموسمي الحاصل بسبب نقص الامدادات الغازية الايرانية والذي يتباين بين 4 فترات في كل سنة

تعاني منظومة الكهرباء العراقية من مشاكل مزمنة ومركبة جعلت تجهيز الطاقة في هذا البلد النفطي غير مستقر ومكلف أُثقِل بها كاهل (المواطن والدولة على حدٍ سواء) لدرجة ان خطة التطوير الكهربائية المقررة منذ أكثر من 6 سنوات مع شركتي (GEوSIEMENS) المذكورة آنفاً لم تُنفَذ لأسباب من أهمها هو صعوبة توفير الوقود اللازم (الغاز) لتشغيل المحطات والتوربينات المزمع تجهيزها ضمن تلك الخطة بجانب عدم حصول المشروع على أي تمويل طويل الأمد لا من المستثمرين المحليين ولا من مؤسسات الإقراض الدولية مع صعوبة التمويل الحكومي

كذلك، فمحطات الطاقة الكهربائية العراقية (غازية ،حرارية ،ديزل) تعاني التقادم وسوء التشغيل والصيانة مع استخدام وقود غير مناسب/سيء لتشغيل معظمها مما جعل نسبة التوليد فيها لا تتعدي 30ِِ%~50% من السعة التصميمية لها لتصل كلفة التوليد للوحدة الواحدة في بعض المحطات الى حوالي (1-2 دولار لكل كيلو واط ساعة واكثر) وهذه تكاليف لا يمكن القبول بها بأية حال كما إن ضائعات الشبكة الكهربائية تصل الى ارقام لاوجود لها في العالم ففي مدينة الصدر ببغداد مثلاً وصلت الضائعات الى 70% من الطاقة المتولدة وهذا بمجموعه جعل الشبكة العراقية الكهربائية قاصرة حتى في زيادة معدل الإنتاج المحلي او المستورد بحيث ان خلال سنتي 2022-2023، نما (الإنتاج + الاستيراد) السنوي الى 2 جيجا واط لكن ما وصل منها الى مراكز التوزيع لا يتعدى 38% منه فقط

 مركز الثقب الأسود في الكهرباء العراقية هي (في محطات التحويل وخطوط النقل) واللتان تعانيان من ضعف مفزع في بناها التحتية ومنها محطات التحويل (132و400 كيلو فولت) بحيث تحتاج الشبكة الى بناء المئات من لك المحطات حتى عام 2030 وبنفس النسب يمكن التكلم عن خطوط النقل والتي تحتاج الى مالا يقل عن 20% خطوط إضافة للحالية حيث ان (النقص في بناء محطات تحويل جديدة) و(مد الخطوط نقل أطول) يؤثر على كفاءة نقل الطاقة الكهربائية بشكل مرن وانسيابي مما يزيد الخسائر والضائعات في الطاقة (والتي تصل الى 65% من الخسائر الكلية للشبكة).

في العشر سنوات (1980-1989)، استثمر العراق حوالي 55 مليار دولار لتطوير شبكته الكهربائية (بسعر اليوم 178مليار دولار) لتصل قدرة التوليد التصميمية في محطاته الى 9.3 جيجا واط عام 1990 بينما وصل مقدار ما تم صرفه خلال 21سنة ما بين السنوات 2003 الى 2023 الى 95 مليار دولار لا أكثر (استثمارية) وتعادل فقط 35% مما تم استثماره في الشبكة الكهربائية السعودية خلال نفس الفترة

ان عدم جدية الطبقة السياسية في تطبيق حل جذري لمعضلات الكهرباء تاتي من أن 67%من العراقيين لا يدفعون أصلاً ثمن ما يستهلكوه من الكهرباء الوطنية ومن اكثر من 5.2 مليون وحدة سكنية هناك فقط 1.3 مليون وحدة منها تملك عدادات (جزء كبير لا يعمل) او ان أصحابها يربطون وحداتهم بشكل مباشر بالشبكة بدون المرور بالعدادات التي لديهم وهذا يمثل 35 % من كل الضائعات مع ان سعر تعرفة الكهرباء للصنف المنزلي في العراق تبدأ من 10 دينار(0.0065 دولار) حتى 120 دينار(0.078 دولار) وهي لا تصل حتى الى معدل تكلفة الإنتاج المحلي(0.13دولار) لهذا فواردات الكهرباء العراقية في سنة 2023 (من كل مستخدميها) كما ذكرنا وصلت الى 2 مليار دولار مقارنةً ب 19,54 مليار دولار هي واردات السعودية من منظومتها الكهربائية لنفس الفترة.

ان حاجة العراق السنوية تُقدّر بحوالي 30 جيجا وات من الكهرباء بحلول عام 2030 لسد حاجته ولتلبية متطلبات تنمية اقتصاده باستثمارات لا تقل عن 50 مليار دولار في القطاعات الخمس (الإنتاج ،النقل ،التحويل ،التوزيع ،الجباية) وهو الرقم الذي قد تعجز السلطات الحكومية عن تحصيله خلال الست سنوات المقبلة كون إدارة ملف الكهرباء الحالي و تجهيزه بالطاقة و الاستثمارات اللازمتين لاستمراره هو بالأساس معضلة لها لذى فقد يحتاج العراق الى جلب استثمارات (خارجية ومحلية) لتطوير منظومته الكهربائية و منح القطاع الخاص دوراً اكبر في عمليات الإنتاج والنقل والتوزيع

واخيراً، فالحلول الناجعة هنا كثيرة ومطلوبة ومنها ترشيق وزارة الكهرباء أو دمجها مع وزارة النفط (كوزارة للطاقة) وهي البداية الصحيحة لأول خطوة باتجاه حل امثل لمشاكل الطاقة في العراق مع السعي للحصول على تخصيصات اكبر من اجل توفير بنى تحتية في قطاع الغاز وخلق استثمارات حقيقية لتطوير الحقول الحالية لإنتاج اعلى كميات من الغاز لسد حاجته المحلية (ومنها بناء الخزين الجوفي الاستراتيجي مع خزانات سطحية بسعات كلية تصل الى  7 مليار م3) وكذلك تطوير آليات الإنتاج المحلية للغاز الجاف كون الاتفاقية الاخيرة للمقايضة مع تركمانستان وايران هي الخطة (B) لتفادي العقوبات الامريكية على ايران وهذه الاتفاقية لم تُصمَم اصلاً لتكون حلاً لنقص تجهيز العراق بالغاز وبالتالي لم ولن تكن عصاً سحرية لمشاكل الكهرباء العراقية والتي تعاني من الأساس من(العجز والفساد و سوء التخطيط) والتي أدت الى تحول هذا القطاع الفعّال الى قطاع خاسر و عامل مبطئ رئيسي لعملية تطوير اقتصاد البلد وإحباط لخطط توسيع نسب مشاركة القطاع الخاص فيه بالإضافة الى تحويل العدادات في الوحدات(المنزلية ،الحكومية ،الصناعية ،التجارية) الى الكترونية ذكية(مسبقة الدفع) وتجهيز كل المحافظات بها لضمان الاستهلاك العادل و تقليل التجاوزات والسرقات من الشبكة الى حدها الأدنى وحماية حقوق الشعب بقوانين صارمة تحفظ له واردات تلك الثروة مع مراجعة شاملة و حقيقية لتعرفة الكهرباء المباعة(خصوصاً المنزلية والحكومية منها الذين يشكلان 75% من الاستهلاك الكلي) و ايصالها لسعر التكلفة على اقل تقدير.

إن الاعتماد على التصريحات الصحفية وعرض ارقام مستقبلية غير واقعية او متفائلة بشكل كبير سوف لن تحل شيئاُ بل ستعقد الوضع (المعقد اصلاً) وتصل بالحكومات المتعاقبة الى اعتماد سياسة معينة لتغطية تساؤلات الراي العام حول حقيقة تلك الأرقام وصحتها على ارض الواقع والذي قد يؤدي بالراي العام لاعتبار هدف تلك الحكومات من عرض معلومات وخطط قد لا تكون منطقية بالمرة هو هدف انتخابي بحت