رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

عبد الحفيظ محبوب يكتب: روسيا ومطالبها بإعادة صياغة النظام العالمي في إطار متعدد

نشر
الأمصار

تبقى الحاجة ملحة إلى صياغة استراتيجية موحدة حول الكيفية التي يمكن أن يدار بها العالم في المرحلة المقبلة، تزامنا مع خفوت واشنطن، عبر تعزيز التعاون الاقتصادي فيما يتعلق بالطاقة والتجارة والعملة بالإضافة إلى تقسيم النفوذ بين الدب الروسي والتنين الصيني لملئ الفراغ الاستراتيجي الذي تركته واشنطن خصوصا بعد الانسحاب المهين من أفغانستان في أغسطس 2021 لينهي أطول حرب خاضتها القوات الأمريكية، ما جعل الجمهوريون صاحب الأكثرية في مجلس النواب الأمريكي يشرعون في فتح تحقيق برلماني حول طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي وصف بالفوضوي قتل خلاله 13 جنديا أمريكيا في هجوم بقنبلة خارج مطار كابول خلف 173 قتيلا بالإجمال.
هناك تداخل منذ زمن بعيد بين النظريات الاستراتيجية والجيوبولتيكية والفلسفية أيضا في أحيان كثيرة في كل عمل توسعي تقوم به الامبراطوريات أو حتى أي زعيم أو رئيس دولة على غرار غزو صدام حسين الكويت وكذلك تمدد ولاية الفقيه وقضم مناطق عربية والاستحواذ على عواصم عربية، وكذلك العثمانية الجديدة التي اتكأت على تنظيم الإخوان التي تمتلك قواعد شعبية باعتبارها تنظيم قديم منذ نشأته عام 1926 بعد انهيار الخلافة العثمانية برعاية بريطانيا واليوم أصبح برعاية أمريكية.
هناك نظريات ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مثل نظرية ماكندر قلب الأرض ونظرية اسبيكمان ونظرية ماهان البحرية الذي نصح أمريكا بشق قناة بنما لسرعة الاتصال بين المحيطين الأطلس والهادي وطبقت أمريكا النظرية وانتهى العمل من شق القناة في عام 1914.
وظهرت نظريات بعد نهاية الحرب الباردة 1991 مثل نظرية صراع الحضارات لهنتجتون ونهاية التاريخ لفوكوياما، واستند بوش الإبن لغزو أفغانستان والعراق ردا على أحداث 11 سبتمبر 2001 على مبدأ لويس باستخدام علاج الصدمة القاتلة أو ما يعرف بال نيوكونز الذي يقضي بتصدير الديموقراطية إلى حد فرضها بالقوة من منطلق إعادة صياغة العالم تحت مقولة شهيرة كان يرددها المحافظون الجدد الفوضى المنظمة.
كذلك حينما أراد بوتين مواجهة تمدد الناتو اعتمد على نظرية دوغين ما تعرف بروسيا الجديدة وهي نظرية قومية متطرفة معادية للغرب لا سيما في ما يتعلق بأوكرانيا وقبلها ضم القرم وسوريا وجورجيا بحجة أن دوغين يود تقديم نموذج أكثر عدالة من النموذج الليبرالي يعيد ويكرر نموذج الاشتراكية المقابلة للرأسمالية في زمن الحرب الباردة، بدأ ذلك منذ عام 2007 عندما عبر بوتين في مؤتمر ميونخ 2007 طالب بعالم أكثر عدالة ومساواة من غير زيف ما يطلق عليه القطب الواحد المتشدق بالنظام العالمي، واعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي غلطة ما يعني أن بوتين أصبحت لديه أحلام سلطوية، وبدأ يستعيد استخدام الكثير من تعاليم لينين السلطوية والشعبوية، بينما أراد بريجينيف أن تستعيد روسيا قوتها الاقتصادية، ( بينما لا يزال اقتصاد روسيا نصف الاقتصاد الألماني ) في مواجهة توسع الناتو الذي هو الآخر الغرب اتجه نحو نبش أفكار كل من يورغن هابرماس المفكر الألماني وفكوياما ومايكل والزر المفكران الأمريكيين، وبرنار هنري ليفي الفرنسي.
أسس حلف شمال الأطلسي عام 1949 لمواجهة توسع الإمبراطورية السوفيتية الذي هو بدوره أنشا حلف وارسو بين الاتحاد السوفيتي وسبع جمهوريات في 1955 إلى أن انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991 كان على قادة الغرب المنتصر إنشاء إطار أمني جديد لإعادة تعريف العلاقات مع روسيا التي ظهرت على أنقاض الاتحاد السوفيتي، لكن في عام 1999 شن الناتو حملة قصف جوي على صربيا أثناء حرب كوسوفو، صربيا كانت حليفة لروسيا وبعد فترة قصيرة انتخب بوتين رئيسيا لروسيا.
لم يتم ضم روسيا إلى الناتو لكن في عام 2002 تم تأسيس مجلس الناتو وروسيا لتعزيز التعاون، لكن ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 توقف هذا التعاون، طيلة الوقت حافظ الناتو على سياسة الباب المفتوح بشأن العضوية، فقد انضمت بولندا والتشيك والمجر عام 1999، ومنذ عام 2004 حتى 2009 انضمت بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا، ومن عام 2017 حتى 2020 انضم الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وانضمت مؤخرا السويد وفنلندا ليصبح ما رفع عدد أعضاء الناتو إلى 31 بعدما حافظتا الدولتان الاسكندنافيتان على الحياد العسكري لفترة طويلة.
لكن ذلك تغير في فبراير 2022 عندما شنت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا، حطم الغزو لأوكرانيا الإحساس طويل الأمد بالاستقرار في شمال أوروبا، ما ترك شعورا بالضعف لدى السويد وفنلندا خصوصا فنلندا التي شعرت بألم غزو النظام السوفيتي فنلندا عام 1939 خصوصا وأن هناك حدود طويلة مع روسيا تبلغ 1340 كلم، كذلك بالنسبة للسويديين فقد شعروا بأنهم مهددون بالاختفاء خصوصا عندما قامت روسيا في 2013 بمحاكاة هجوم على استكهولم.
تعد غزو أوكرانيا أكبر حرب في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، رغم أن بوتين يعتبر توسع الناتو يمثل تهديدا مباشرا لأمن بلاده، وأنه كان السبب وراء شن حرب عام 2022 على أوكرانيا، لكن غزوه كان له تأثيره معاكس من خلال العمل على توسيع نفوذ الناتو، فكان انضمام فنلندا نكسة خاصة ما زاد من نفوذ الناتو على بحر البلطيق.
انتقال الصراع من الشرق إلى الغرب الأوروبي والذي يمثل العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة، والتي تمتعت بالهيمنة على العالم بفضل قيادتها تلك المنطقة الجغرافية منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي، جعل بكين تلعب دور البطولة وعلى رأسها النجاح المنقطع النظير للإدارة الصينية في احتواء صراع طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط إثر الاتفاق الذي أبرمته بين السعودية وإيران بضمانة بكين، هناك أيضا النفوذ المتوافق بين الصين وروسيا في أفريقيا خصوصا عندما استضاف بوتين قمة أفريقية روسية ووافق على توريد بلاده الحبوب بالمجان لعدد من الدول الأفريقية في حال عدم التوصل إلى اتفاق دولي حول صادرات الحبوب الأوكرانية ناهيك عن عقد قمة خليجية روسية، فهناك توافق روسي صيني حول عدد من القضايا الدولية الراهنة والكيفية التي يمكن التعامل معها وتحولت إلى حالة من التكامل بين الصين وروسيا بدلا من التنافس، بل امتدت حتى إلى أحد اكثر نقاط الصراع بين القوى المتنافسة والتي تتمثل في السيطرة على أكبر قدر ممكن من دوائر النفوذ وذلك عبر تقسيم مناطق التأثير فيما بينها بالتوافق، وهو ما يمثل صورة جديدة من التحالفات التي تتجاوز الرؤى التي تبناها الغرب والتي التزمت فيها دول المعسكر بالدوران في فلك القيادة الأمريكية مقابل تقديم الأخيرة الحماية لهم خاصة على الجانب العسكري من خلال حلف الناتو.
من أجل تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة وعمقها الاستراتيجي في أوروبا بعدما تضررت أوروبا من حرمانها من الطاقة الرخيصة الآتية من روسيا لجأت أمريكا إلى إنشاء ممر اقتصادي جديد بين الهند والخليج وأوروبا من أجل تامين الطاقة من دول الخليج تعويضا عن الطاقة الرخيصة التي فقدتها من روسيا وأثرت على تنافسيتها في الصناعة خصوصا مع الولايات المتحدة، لكن أضاف هذا الممر الحصول على الطاقة المتجددة كالهيدروجين الأخضر من نيوم تماشيا مع مخرجات مؤتمر باريس 2015 وهو بمثابة جسرا أخضرا ورقميا عبر القارات والحضارات.
وفي نفس الوقت يواجه الحزام والطريق التي أطلقتها الصين في 2013 بهدف بناء شبكة اقتصادية وبنى تحتية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا لتعزيز النفوذ العالمي للصين من شرق آسيا إلى أوروبا من خلال الدول في جميع أنحاء العالم تعتمد بشكل متزايد على الصين، وكذلك تكتل بريكس الذي هو بمثابة تكتل اقتصادي يسعى لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي ولكسر هيمنة الدولار، ومن أجل إعادة تشكيل القوى الاقتصادية العالمية، ويمثل نحو 25.6 في المائة في الاقتصاد العالمي بنهاية 2022 مقابل 43.25 بالمائة للقوى السبع الصناعية، وهناك 40 دولة أبدت طلب الانضمام للبريكس لكن لم يتم الموافقة سوى على انضمام السعودية والامارات والأرجنتين وإثيوبيا وإيران ومصر، أي لا يزال الصراع بين القوى الكبرى مستمرا ومتواصلا والسعودية تلتقي عندها الطرق.