د. عبد الحفيظ محبوب يكتب: أوروبا والبحث عن بدائل الغاز الروسي
أوروبا وأمريكا منزعجتان مما أحدثته العقوبات على روسيا تأثيرا عكسيا وتحول الغاز الروسي إلى منجم ذهب، بل تكبدت أوربا العديد من الخسائر في خضم أزمة اقتصادية كبرى تضرب العالم منذ اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا، حيث وصلت نسب التضخم في أوربا إلى نسب غير مسبوقة في ظل غياب أفق لمستقبل الصراع مع روسيا، مع استمرار الضغوط لحصار النظام الروسي اقتصاديا وسياسيا، حيث تشكل إمدادات الغاز الروسي 40 في المائة من احتياجات الاتحاد الأوربي، في حين يشكل النفط الروسي 26 بالمائة من واردات التكتل، كما أن بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا والنمسا ودول البلطيق اعتمدت أكثر من غيرها على الطاقة الروسية، لكن دول البلطيق فرضت حظرا على الطاقة الروسية بسرعة أكبر بكثير من ألمانيا والنمسا، وفي أبريل 2022 أوقفت دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا استيراد الغاز الروسي معتمدة على احتياطيات الغاز المخزنة تحت الأرض في لاتفيا.
لكن يرتبط الاقتصاد الألماني على مدى عقود بالغاز الروسي وحظر الغاز الروسي ضربة كبيرة للاقتصاد الألماني، وهو الاقتصاد المنافس لاقتصاد الولايات المتحدة، لأنها تعتمد على ثلث وارداتها من النفط ونحو 55 في المائة من الغاز الروسي ونحو 45 في المائة من مشترياتها من الفحم الحجري، وسينخفض النمو في 2022 إلى 1.9 في المائة ومزيد من الركود في 2023 قد يصل الانكماش إلى 2.2 في المائة، أي أصبح أمن أوربا الاقتصادي والمعيشي على حافة الهاوية، فصناعة السيارات مهددة بسبب أنها تعتمد على استيراد الشرائح من روسيا وأوكرانيا، وكذلك تلقى الأمن الغذائي ضربة بسبب أن أوربا تستورد الأسمدة الزراعية من روسيا، فإذا تأثرت روسيا نتيجة العقوبات في الداخل الروسي بنحو 20 في المائة فإن نتيجة العقوبات على الداخل الأوربي أكبر.
يدفع الاتحاد الأوربي ثمن الحرب ضد أوكرانيا، وهم يعرفون ذلك ويشددون عليه، خاصة أن البدائل الجاهزة ليست متوفرة في الوقت الراهن فنحو 60 في المائة من احتياطيات الغاز لدى دول الأعداء روسيا وإيران وتشترك قطر مع إيران في أكبر حقل غاز في العالم حقل غاز الشمال باحتياطيات 51 تريليون متر مكعب، فأوروبا كسبت فقط عودة أمريكا إلى مؤتمر المناخ مقابل أن أمريكا ضربت التقارب الروسي الصيني الأوربي وأيضا العملة الأوروبية وإن كانت تصبح أوروبا أكثر تنافسية في التصدير.
ووفق صحيفة ذا هيل الأمريكية أن الولايات المتحدة ودولا غربية وقعت في فخ بسبب العقوبات التي فرضت على روسيا بعد بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، فهي لم تدمر الاقتصاد الروسي بل خلقت مشاكل خطيرة لأولئك الذين فرضوها، وتم تشبيه العقوبات بأسلحة الدمار الشامل الاقتصادية.
تشكلت مجموعة الست عام 1975 مكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا واليابان انضمت لهم كندا بعدها بسنة، لمعالجة المخاوف الاقتصادية بجانب سياسات الحرب الباردة، انضمت روسيا عام 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون لكن وزراء المالية كانوا على حذر باعتبار أن اقتصاد روسيا اقتصاد صغير نسبيا إلى أن تم تعليق عضوية روسيا عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم ثم انتقلت روسيا إلى سوريا لتوسيع نفوذها، وبعد تراجع حجم ناتج مجموعة السبع العالمي من 70 في عام 2000 إلى نحو 40 في المائة حاليا، حلت محلها مجموعة العشرين التي تأسست عام 1999 وأصبحت مجموعة فاعلة بعد الأزمة العالمية عام 2008 وأصبحت تشكل 90 في المائة من الناتج العالمي ونحو 80 في المائة من التجارة العالمية وثلثي سكان العالم.
عادت مجموعة السبع إلى الواجهة مرة أخرى باعتبارها تمثل الديمقراطيات الغنية في العالم وأشعلت معركة العقوبات ووضعت سقف لأسعار الطاقة الروسي بعدما وجدت أن العقوبات السابقة لم تحقق بغيتها بل بالعكس تحولت إلى منجم من ذهب وزادت إيرادات الطاقة الروسية وارتفعت قيمة الروبل، وأصبحت المجموعة تبحث عن كبح أسعار الطاقة، وكأنها أصبحت في مواجهة أوبك بلس، ولكن قرارها اقتصر على النفط الروسي فقط من أجل وضع سقف أعلى لأسعاره، كذلك استبعدت الغاز الروسي، وهو بمثابة قرار رمزي لتسترد مجموعة السبع ماء وجهها أمام شعوبها بعد فشل العقوبات السابقة المفروضة على روسيا التي نتج عنها ارتفاع نسبة التضخم بشكل غير مسبوق في أوروبا والولايات المتحدة.
ناقشت مجموعة السبع التهديد الصيني الذي اعتبرته التحدي الأكبر وهي تشكل تهديد ثلاثي الأبعاد لدول مجموعة السبع اقتصاديا وأيديولوجيا وجيوسياسيا، بسبب أن الصين تقود نموذج اقتصادي عملاق يركز على البلدان النامية عبر الحزام والطريق، وتعتبر أن نموذجها الاقتصادي بممارسات تجارية غير عادلة، رغم أنها وضعت نموذج بضخ 200 مليار دولار في البلدان النامية كبديل مماثل لمواجهة الحزام والطريق لكنه بديل غير واضح.
اتفقت مجموعة السبع ( نادي الأثرياء ) قبل انعقاد القمة في 28/8/2020 في قلعة الماو بمرفأ فاريا بجنوب ألمانيا على حماية المناخ وأمن الطاقة وإزالة الكربون من إمدادات الطاقة بحلول عام 2035، وكأن المناخ احتل المقعد الخلفي، نجد في نهاية القمة طالب المستشار الألماني أولاف شولتز بتطوير مجموعة السبع إلى ناد مناخ، وأشار إلى أنه لن يمكن فرض سقف السعر إلا إذا تم تنظيمه عالميا ما يعني أن المستشار الألماني يعارض قرار وضع سقف للنفط الروسي غير ممكن، كما وقالت أورزولا فون دير لابن رئيسة المفوضية الأوربية إن إنجاح مثل هذا الاجراء يتطلب مشاركة عدد كبير من الدول، كما طالبت وضع سقف أعلى لأسعار الغاز أيضا، لكن روسيا ردت على تلك الآراء بأنه سيؤدي إلى زعزعة كبيرة لاستقرار سوق النفط العالمية.
قد تكون المواجهة والاحتواء التي تقودها دول مجموعة السبع استراتيجية غير قابلة للتطبيق، فهي تود اختراق أوبك+ وتفكيكه من جانب، ومن جانب آخر تشجيع الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا على الانضمام لمجموعة دول السبع في شراء النفط، ليس فقط النفط الروسي بل نفط أوبك+، ولكنها مطالب غير قابلة للتطبيق، خصوصا وأن دول من مجموعة السبع نفسها كألمانيا وفرنسا وإيطاليا تفضل التعاون الاقتصادي مع الصين، وفي نفس الوقت أوقفت ألمانيا إرسال مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا بعد هولندا، وفرنسا تفضل الحوار المباشر مع بوتين بدلا من تركه لأردوغان لحل الأزمة في أوكرانيا.
والجميع يتفق على أنه لا يوجد بديل في التعاون مع الصين بشأن الاحتباس الحراري العالمي، فمثلا اليابان لا تخاطر بروابطها الاقتصادية مع الصين، لذلك هي غير مستعدة للمضي قدما خلف الولايات المتحدة في ممارسة نزاع مع الصين، بل إن الصين تتحدى دول مجموعة السبع لمضاهاة مشاركتها في التنمية الأفريقية وتوزيع اللقاحات، والسعودية شريكة الصين في مشروع الحزام والطريق لأنه يمر بأراضيها متجها نحو أفريقيا، ولن تتخلى عن المشاركة في هذا المشروع بسبب أنها ترفض الاصطفاف والانحياز إلى جانب ضد الجانب الآخر، كما أنها لن تتخلى عن التحالف مع روسيا في قيادة أسواق النفط العالمية.
ما تقوم به مجموعة السبع مجرد احتجاج على الخصوم الجدد الصاعدين، ما يعني أن الولايات المتحدة وبقية مجموعة السبع تخلت عن قيمها وتعهداتها المعلنة، لم يتبق سوى بريطانيا التي تسير في فلك الولايات المتحدة، وأوروبا إذا لم تعيد رسم سياساتها بعيدا عن الولايات المتحدة فإنها ستستمر فترة طويلة في الاعتماد على الفحم الحجري والطاقة النووية لتوليد الكهرباء الملوثين.
ما فعلته إدارة بايدن في أوروبا وفي مضيق تايوان فقط من أجل تأخير تحول العالم من القطبية إلى تعدد الأقطاب، وتبذل إدارة بايدن ما في وسعها لاستعادة سمعة الولايات المتحدة كزعيمة للعالم، فأصبح محاولات بناء الجسور مع كبار الأطراف الفاعلة خارج مجموعة السبع التي اعترف العالم بها في مجموعة العشرين خصوصا بعد أزمة الرهون في 2008 وعلى رأسها روسيا التي تمردت على أمريكا وكذلك تمرد الاتحاد الأوربي بقيادة فرنسا التي أرادت بناء جيش أوربي للتخلص من الهيمنة الأمريكية، لكن الحرب الروسية في أوكرانيا جعلت أوروبا أسيرة المظلة الأمنية الأمريكية، فحتى الآن قدمت أمريكا لأوكرانيا نحو 23 مليار دولار كمساعدات عسكرية، بينما الدول الأوربية مجتمعة لا تصل مساعداتها العسكرية إلى هذا الرقم، والسعودية التي استعادت الولايات المتحدة الشراكة الاستراتيجية بعد أزمة دبلوماسية مع إدارة بايدن توجت بزيارة بايدن للسعودية، وبالطبع إدارة بايدن في مواجهة متواصلة مع الصين، والهند قيد التشكيك التي تراعي مصالحها وليس مصالح الولايات المتحدة، والبرازيل التي تفضل أن تنضم إلى مجموعة البريكست، والتي تحرص الصين وروسيا على ضم دول أخرى إلى المجموعة على رأسها السعودية ومصر ودول أخرى لتوسيع هذه المجموعة الاقتصادية.
رغم قرار دول مجموعة السبع بوضع سقف سعر للنفط الروسي لكن الرئيس الروسي الأسبق هدد بوقف الغاز عن أوربا، وفي اجتماع أوبك+ في 5/9/2022 قررت تخفيض الإنتاج 100 ألف برميل يوميا خلال شهر أكتوبر لتمحو بذلك قرار اجتماعها السابق الذي تضمن زيادة إنتاج النفط بنفس القدر خلال شهر سبتمبر الحالي، ينظر لقرار خفض الإنتاج على أنه وسيلة أوبك لضبط أوضاع سوق النفط، التي وصفتها السعودية بأنها أصبحت لا تخضع لقواعد العرض والطلب المتعارف عليها بالأسواق.
ومن شأن هذا القرار دفع أسعار الخام نحو الصعود ليتم تداول خام برنت حول مستوى 100 دولار للبرميل، وأيضا ردع لأي عمليات بيع على المكشوف بعدما خسرت العقود الآجلة للنفط الخام 20 في المائة في الأشهر الثلاثة الماضية، بسبب مخاوف من تباطؤ اقتصادي عالمي خصوصا بعد انخفاض استهلاك في الصين بنحو 9.7 في المائة في يوليو إلى أدنى مستوى في عامين وسط ضعف النشاط التجاري وقيود كوفيد القاسية، ما جعل خام النفط يتراجع من 120 دولار للبرميل إلى 95 دولار للبرميل في يونيو وسط مخاوف حدوث تباطؤ اقتصادي وركود في الغرب، خصوصا وأنه من المتوقع أن تضيف إيران مليون برميل يوميا للإمدادات العالمية إذا خففت العقوبات على الرغم من احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي بدت أكثر ضبابية.