رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

العميد يعرب صخر يكتب: ظاهرة الأقليات / مهلكة العصر

نشر
الأمصار

أضع أمامكم مقالة مطولة عن معضلة أو مهلكة الأقليات، تعمدت فيها الخوض والتشريح، لتسليط الضوء على خطر داهم قد يقضي على كل شيء، يقسم المقسم ويفتت ما تبقى. أرجو إيلاء الأمر عناية" ومشاركة" وطول بال. فالقصد توعية عامة واستباق للمحظور...مع محبتي، قراءة ممتعة.

إن السبب الرئيسي وراء تناولنا لمشكلة الأقليات في الشرق الأوسط، هي لأنها من أهم الأسباب النزاعية، ولأنها الوسيلة الأبرز التي يركن إليها المتنفذون الدوليون، لينفذوا عبرها إلى نسيج المجتمعات وتغذيتها بمنحها إمتيازات على حساب الأغلبيات المنتشرة، فيندلع الصراع، وعندها يطرح اللاعبون الدوليون أنفسهم كوسائط حل، بالتالي للتمكّن المباشر في تقرير المصائر، فتأتي أولى الحلول عندهم بتقسيم الكيانات الجامعة لهذه الأقليات إلى جيوب موزعة ومرسومة بشكلٍ فسيفسائي، إنما بمضمونٍ تفتيتي.
أليست "سايكس بيكو" الأنموذج البارز لهذه العملية، والغرض منها تمزيق وطنٍ عربي إسلامي واحد إلى أوطانٍ متعددة بحدودٍ متداخلة، ومعها أسبابها النزاعية؟ وألم يكن الإنتداب الأوروبي لهذه المنطقة يهدف لتطبيق هذا المخطط على أرض الواقع؟ ألم يكن وعدهم "للشريف حسين" بعودة ما للعرب للعرب على أن يقاتل معهم السلطنة العثمانية، وبعدها أخلفوا الوعد؟ على أنه لم يُكتفى بذلك، بل بدأت تشرئبُّ برأسها خرائط أقلوية جديدة قديمة، تنذر بمزيدٍ من التفكيك والشرذمة، عنوانها حقوق الأقليات.

ليس هناك تعريف علمي واحد لأية أقلية في الوطن العربي. هناك جماعات تصنف في خانة الأقليات وتعد بعشرات الملايين. ومنهم مثلاً، الأكراد على المستوى العرقي ويتوزعون ما بين تركيا والعراق وإيران وسورية، ويقدر عددهم بحوالي 29 مليون. وهناك الأقباط في مصر على المستوى الديني ويقدر عددهم بعشرة ملايين. وهناك الأمازيغ في دول شمال أفريقيا، ويقدر عددهم باكثر من 20 مليون، ويطالبون باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية. يضاف إلى ذلك أن خارطة «الأقليات» في الوطن العربي تضم عدداً كبيراً من الطوائف المسيحية، والإسلامية، واليهود، والصابئة، وجماعات العبادات المحلية في جنوب السودان. كما ان هناك أقليات عرقية كالأرمن، والشركس، والتركمان، والشيشان، وغيرهم.
حوالي 80 % من سكان الوطن العربي يتحدثون اللغة العربية كلغة أصلية ويدينون بالإسلام ويعتنقون المذهب السني، وينتمون سلاليا" إلى العنصر (السامي الحامي). لكن منطقة الشرق الأوسط، نتيجة لتفاعلات العديد من المؤثرات التاريخية والحضارية، أفرزت العديد من الأقليات العرقية، والدينية، والطائفية، واللغوية، وجماعات سياسية وأخرى ثقافية مكونة من أقليات لها مطالب خاصة تحقق مصالحها طبقاً لوجهة نظرها، وبخاصةٍ المشرق العربي. لذا؛ فعندما انفجرت هذه المسألة إبان الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، كانت بفعل إرهاصات داخلية تزامنت مع تدخلات أوروبية متزايدة للسيطرة على قرار السلطنة السياسي، والتحكم بقواها البشرية، واستنزاف مواردها الطبيعية.
وفي تفاصيل هذه العملية انبرى الأوروبيون إلى احتضان زعامات وتحضيرهم ثم تحريضهم على بث روح الاستقلالية أو الذاتية الأقلوية لدى فئاتهم، من مثل القزلباشيين أو النصيريين (العلويين) بالتنسيق مع الصفويين (الايرانيين) لمد جسور التواصل من وسط آسيا حتى شواطيء المتوسط، لسلخ شمال بلاد الشام عن جنوب النشاط العثماني في سائر البلاد العربية وقطع أوصال شبكة إنتشار الإمبراطورية العثمانية. وأكثر من ذاك تنمية العقائديات  المتضادة لخلق عدم استقرار والهاء العثمانيين عن المشروع بالتوسع نحو أوروبا. هذا بالتزامن مع رعاية محمد علي باشا في مصر وبعده إبنه إبراهيم باشا وتغذيتهما بجيوش جرارة ولوجستية قوية، حيث كادت أن تقوض أركان الإمبراطورية العثمانية في جل الساحل المتوسطي والاقطار التابعة لها. هنا الأوروبيون أنفسهم هم من أنهى حركة المصريين بعد أن استعملوها لإضعاف العثمانيين ثم انخراطهم بأنفسهم - بعد أن كان دخولهم بالوكالة - على قاعدة الأقليات التفتيتية في المشرق العربي. ومع هذا السياق دفع ما سمي بالمعنيين والشهابيين في جبل لبنان للتمرد على السلطنة بعدم دفع الضرائب وقتل ولاتها والقضم المتفرق للأراضي من هنا وهناك والامتناع بها كشراذم أقلوية وتقوقعات فئوية، أضرت كثيرا" بالسطوة والسلطان، وكلها تعود وتنحسر كما كانت بعد أن أدت دورها لغيرها وليس لها لتقع ثانية" تحت العقاب العثماني.
وسط كل ذلك، كان التنسيق المباشر بين اوروبا والإيرانيين - بعد أن باتت إيران صفوية امامية اثنا عشرية، نسبة" للشاه اسماعيل الصفوي الذي حولها بالتطهير المباشر  من ٧٠% سنة إلى ٩٠% شيعية خالصة - لمشاغلة العثمانيين من الخلف في العراق وشمال بلاد الشام، وتحويل وجهتهم عن التوسع غربا" نحو أوروبا. وكانت على إثرها حروب عثمانية صفوية استمرت ١٥ عام قضى فيها مئات الآلاف.

بعد إستتباب الأمور للأوروبيين، لم تأتِ الحدود السياسية لدول المنطقة، متوافقة مع الحدود الثقافية والخريطة الديمغرافية للشعوب والقوميات الملحقة بها، وباتت أمام إشكالية تحديد وتعريف هويتها الثقافية والوطنية، تُطرح اليوم بقوة كقنبلة موقوتة قابلة للإنفجار في أي لحظة، حيث لطالما استغل ويستغل الغرب موضوع الأقليات لتحقيق أغراضه ومآربه في الوطن العربي. وبدا أن " سايكس بيكو" لم تعد تتماشى مع المخططات الجديدة.
يحضر هنا مخطط المؤرخ الأميركي "برنارد لويس" كأخطر تهديدٍ يتمثل بهذه المعضلة، كمحاولة تصويبية أو تطويرية لسايكس بيكو، وتقسيم المقسَّم. تبنّى الكونغرس الأميركي هذا المخطط عام 1983في جلسة سرية، وتم تقنينه واعتماده وإدراجه في ملفات الإستراتيجية الأمريكية للسنوات المقبلة.  وقد كشفت عنه مجلة ال CIA في عددها الصادر في آذار 2003. وعند قدوم المحافظين الجدد، أحيوه وقربوا إليهم "لويس"، وإعتبروه المرشد الأعلى لمدرستهم. 
هذا المشروع يقترح تقسيم الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية، ويتضمن: تجزئة العراق إلى ثلاث دويلات، سوريا إلى ثلاث، الأردن إلى دويلتين، لبنان إلى خمس، والسعودية إلى دويلات عدة... إلخ. ويرى أن كل الكيانات ستشلّها الخلافات الطائفية والمذهبية، والصراع على النفط والمياه والحدود والحكم، وهذا ما سيضمن تفوّق إسرائيل في الخمسين سنة القادمة على الأقل .

المشروع الجديد للشرق الأوسط، يتيح تحقيق تحولات سياسية واقتصادية في بعض دول المنطقة، وإعادة صياغة وحداتها على نحو يستجيب للمتغيرات الدولية والإقليمية، وبين ثناياه توجه الاستراتيجية الأميركية نحو تنظيم علاقتها بالعالم العربي من خلال إقامة نظام مستقر قوامه الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية، وتغييب الأمن القومي العربي بتدمير مفهومه وبنيته. ولعل أفكار لويس خير معبّر عن جوهر الشرق الأوسطية القائم على "التخلي الرسمي عن حلم القومية الذي طال تقديسه والمتعلق بدولة عربية موحدة أو حتى بكتلة سياسية متماسكة". ويجعل هذا، العالم العربي مماثل  لحالة أميركا اللاتينية، حيث تتراكم مجموعة من الدول، تجمعها لغة واحدة وثقافة مشتركة ودين واحد، دون أن تجمعها سياسة مشتركة.
بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993، أصدر شيمون بيريز كتاباً حمل اسم (الشرق الأوسط الجديد)، يتمحور حول خلق منطقة كبرى في الشرق الأوسط، تكون فيها إسرائيل الدولة العظمى، وتسخير كامل المنطقة لخدمة ذلك الهدف الكبير، عبر تقسيمها إلى دويلات، من خلال إثارة القلاقل بين الدول العربية وتأليب شعوبها على بعضها البعض، على أن تسيطر الولايات المتحدة أولاً على المنطقة لتسهيل المهمة لإسرائيل في ما بعد. تطمح هذه الخطة، بعد تحقيق السلام، إلى جمع دول الشرق الأوسط في سوق مشتركة، لتعزيز المصالح الحيوية وصَون السلام على المدى البعيد. لكنها تخفي أجندة أخرى، وهي دمج إسرائيل في المنطقة بعد إعادة صياغتها وتشكيلها لتصبح (الشرق الأوسط) وليست (العربية)، وتصبح هي الدولة المهيمنة والمسيطرة على مقدراتها، كرأس جسر للمشروع الغربي الاستعماري منذ إقامتها في عام 1948.

بهذا، فأهداف المشروع الشرق الأوسطي تتجسد في ما يلي: (أ) تفتيت الدول العربية؛ (ب) تغذية الخلافات العربية البينية؛ (ج) تبديد الطاقات العسكرية العربية في الصراعات العربية البينية والصراعات العربية الجوارية؛ (د) تفشيل أي تنسيق استراتيجي أمني عربي؛ (هـ) منع أي مشروع توحيدي عربي؛ (و) تدمير أية قوة عسكرية عربية تسعى للتنامي أو الحصول على أسلحة متطورة أو سلاح نووي.

يا عجبي!!! إن التاريخ يكرر نفسه من جديد، يستعمل الغرب الجيواستراتيجيا (الخطة الشاملة لإدارة وتقرير الجغرافيا السياسية) في الشرق الأوسط بكامله، من المغرب حتى أفغانستان، باستغلال وتنشيط تناقضات العقائديات السائدة والحروب البينية الجوارية بينها، ووقودها أحلام الأقليات. 
ولمن لم يتعظ مما مضى ولم يعتبر من دروس التاريخ القديم والحديث والمعاصر: يقف معكم فواعل عالمية كثيرة ويشجعونكم بعطف زائد،  حتى تظنون أنكم على حق بالغ مقدس، فستتمردون في أوطانكم وتنسلخون باحلامكم عن امنكم الجامع وهمكم المشترك، فتتوزع همومكم وتتشرذم عقائدكم وتذوي طاقاتكم، ستتنازعون فتغتربون في اوطانكم وتستوطنون غربة، وتتيهون عن أم حنون، لتلقوا أنفسكم وقودا" لنار أرادها لكم أعداء مواطنيتكم وأنتم أنفسكم أضرمتموها.