رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

العميد يعرب صخر يكتب : راسبوتين العهد القوي

نشر
الأمصار

قبل الحرب العالمية الأولى بعقدين، توفي القيصر الروسي "الكسي" وخلفه إبنه "نيقولاي الثاني". اشتهر القيصر الجديد باللامبالاة وبعده عن الشعب الغارق في الفقر، ونزوعه نحو الترف واللهو والبذخ، وإيلاء مقاليد الحكم لزوجته وثلة ارستقراطيين وجنرالات غير مجربين. أنجب على التوالي ثلاث أميرات إلى أن ولد له أخيرا" ذكر أسماه "الكسي الثاني" كولي للعهد، لكن تبين أنه مصاب بالناعور أو السيلان ولن يعيش طويلا" وفق الأطباء حينها.
في هذا الوقت برزت إلى الواجهة شخصية مثيرة للجدل، تجسدت في راهب سيبيري مشعوذ سكير منبوذ ومطارد، لكنه ذو شخصية قوية، فائق الذكاء، قوي البنية، حاد الملامح، يتمتع بقدرة فائقة في قراءة النفوس واكتشاف نقاط ضعفها، وموهبة استثنائية في استمالة الأشخاص وخداعهم وإيهامهم أن في يديه الشفاء وأنه الصلة الروحية بينهم وبين الله... إنه الحاقد الناقم "راسبوتين"، الذي سبقته سمعته إلى القصر، فاستدعاه القيصر وزوجته، المتعلقان بحبال الهواء، عله يشفي ولي العهد ألكسي من مرض الناعور، ويكون لهم وليا" ومرشدا.  
لم يطل الوقت حتى استطاع راسبوتين أن يسحر زوجة القيصر ويسيطر عليها وبالتالي يتحكم بالقيصر لأنه رهن بنان زوجته في كل شيء. أكثر من ذلك إستطاع أن ينفذ إلى مخادع سيدات الطبقة الارستقراطية، فارضا" نفسه الحاضر الأول في حفلات المجون والشخصية الأساسية المقررة في القصر.

في هذا الوقت اشتدت النوائب على الناس وتمكن منهم الجوع والمرض وساءت أوضاع البلاد نتيجة الإهمال وتفشي الفساد واستحواذ فئة قليلة من السياسيين وأصحاب النفوذ على ثروات الدولة، في الوقت الذي كانت تتجه فيه الأمور نحو الحرب العالمية الأولى، والقيصر وحاشيته لاهون عن إعداد الجيش استعدادا" الحرب. وكانت زوجة القيصر ومن ورائها العشيق راسبوتين يمنعان القيصر نيكولاي من إتخاذ أي قرار، إن بالتقرب نحو التاس الجائعة أو بالتجهز للحرب، ألتي ما إن اندلعت حتى قضى فيها مليونان من الجيش الروسي الذي أتى متأخرا" إليها، وخسرت روسيا لألمانيا والنمسا أراضي شاسعة.
نبت من رحم المعاناة الثورة البولشيفية ١٩١٧ وبدأت تثور حملات التمرد والغضب والعصيان العام ما أدى إلى انشقاقات عامودية وأفقية، كان بنهايتها إنضمام الجيش للثورة واستحكام البولشيفيين بمقاليد الأمور،  ما أجبر القيصر على التنازل عن العرش. وقبل ذلك بقليل كان القيصر وزوجته لا يزالان بفعل التأثير الهائل لراسبوتين يعيشان حالة إنكار لكل ما يجري. تم اغتيال راسبوتين، وسيق القيصر وكل عائلته نحو النفي ثم لم يطل بهم الأمر إلا وتمت تصفيتهم جميعا" بوحشية وانتقام...وكانت تلك خاتمة القياصرة الروس.

والآن، إذا قفزنا مئة عام للأمام ونظرنا إلى حال لبنان اليوم، ألا نرى الشبه الكبير بين طغمة الحكم والمتحكمين عندنا بحاشية القيصرية الروسية في ذاك الزمان؟ ألا نرى الرئاسة المتخلية وطاقم الحكم الرذيل متماهية مع ما مضى في سالف العصر؟ أليس حالنا في هذه الأيام كحال الروس الفقراء المعدمين الموبوئين آنذاك؟ ثم شخصية راسبوتين الذي تعمدت سوق قصته، والذي قنص صنع القرار وصادر شخصية القيصر وضاجع زوجات الحاشية وسحر المسؤولين وزرع بطانته في الحكم..أليس هو تجسيد لرأس الميليشيا المتحكمة بجمهوريتنا؟ وهذه الجمهورية، أليست هي زوجة القيصر الممسك بتلابيبها راسبوتين عصرنا؟ واخيرا" طفل الناعور ولي العهد، أليس هو إنعكاس لباسيل الرئيس؟  

قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد فات، اتعظوا من التاريخ وتواضعوا للتاريخ...ومهما بلغتم فأنتم قصار ولستم قياصرة...ولكن: إن في قصص الزمان عبرة، وفي القصاص حياة...يا أولي الألباب.