رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. مصدق العلي يكتب: اغتيال شعب

نشر
الأمصار

عندما كتب الصحفي والمحامي فائق الشيخ علي كتابه (اغتيال شعب)، ليختزل ما اعتَقَدَ أنهُ مثال لمعاناةِ الشعبِ العراقي وانعدام العدالة والشفافية آنذاك حسب ما يفهم من كتابه، لم يكن في بال القراء وربما المؤلف في ذلك الوقت، ان اغتيال الشعب العراقي سيبدأ فيما بعد وبشكل ممنهج واهوج. اغتيالٌ بدأت بوادره ترتسم بملفات الارهاب وتركزت منهجيته بصورة فجة في الست سنين الاخيرة.


الية الاغتيال


ان الشعب العراقي يتم اغتياله اقتصاديا في موضوعي الغلاء وملف المياه. اما الاول فيمكن مشاهدته واحساسه بصعود سعر المواد الغذائية وشبه انعدام مفردات الحصة التموينية في الداخل العراقي رغم وجود برنامج كامل وضعته الامم المتحدة ولازال مستمر لدى وزارة التجارة والذي حُدِدَت فيه نسبة احتياجات الفرد من الغذاء والاحتياجات الاساسية، ويتم صرف مبالغ كبيرة للحصة التموينية في كل الموازنات السنوية العراقية. ومالياً شهد المشهد العراقي زلازل من تصريحات وزراء المالية والنواب، أدت الى هز الثقة في العملة المحلية وتهرب المواطنين من عمل الادخار الداخلي مما ادى لإصدار انواع جديدة من العملة النقدية كحيلة اقتصادية من البنك المركزي لضخ العملة المحلية وبذلك ازداد التضخم وارتفعت الاسعار. كذلك حصل دمار شامل في ثقة الجهات الاستثمارية الاجنبية في السوق المحلية نتيجة لتلك التصريحات مضاف اليها عدم ثبات العملة مقابل العملات الاجنبية وكذلك عدم وضوح ومصداقية سياسة الدولة بخصوص سعر الفائدة للعشر سنين القادمة. ولمواجهة عملية التضخم كان لزاما على البنك المركزي ان يخفض سعر العملة مقابل الدولار لكي يديم فعالية الية مزاد العملة في ضمان استقرار الاقتصاد العراقي الاني. اما في بيت الشعب وفي جلسة مجلس الشعب العراقي الاخيرة، لا يمكن حتى لكائن فضائي ان فَقَهَ ما قيل فيها من حديث "العِتاب" مع وزير المالية الذي بان كأنه تحت تأثير سحر غريب، ان يقبل هذه المهزلة في بعض حديث المُستَجوِبين وايضا ردود معالي السيد الوزير. واسفي الاكبر على بعض من النواب الذين يبدوا من اسئلتهم وتعليقاتهم انهم لا يملكون مسودة مشروع اقتصادي حقيقي. يبدوا ان حملتهم الانتخابية كانت مبنية على مبدأ: لننجح في معركة الصندوق وليذهب العراق الى الجحيم!
أضف الى ذلك الغموض التام في موضوع ملف المياه. هذا الغموض الذي يغطي اهم ملف في حاضر الدولة العراقية ومستقبلها. انه الغموض الذي يهدد كل مقومات الحياة (الاحتياجات اليومية الانسانية، والصناعية والزراعية وملف الطاقة). حيث يرى المواطن انحسار مياه دجلة والفرات لكن في نفس الوقت تزداد الزيارات المكوكية بين اقطاب المشهد السياسي العراقي لدول الجوار الإقليمي، بل ان ال “ الميانه" والصداقة بين السيد رئيس الوزراء العراقي مع رؤساء دول المنبع وصلت الى مستويات نحسد عليها عالمياً. أي بلغةِ الرياضيات: يلاحظ ان هناك علاقة عكسية بين نزول منسوب مياه دجلة والفرات وصعود مستوى "الميانه ميتر" بين ممثلي السياسة العراقية والدول المجهزة للمياه للعراق! 
وكما يقال عراقياً: " الله يثخن لبنكم!", لكن، أليس الأولى ان يُستَغَل هذا التأثير لرؤساء الكتل السياسية العراقية ورئيس الوزراء العراقي في تحسين المستوى المعاشي للعراقيين واستعادة المستوى المائي لدجلة والفرات لما قبل عام 1990 على الاقل. لطالما هلل من يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين والذين يقبضون أموال ظهورهم في حلقات البرامج الاعلامية في قنواتنا الفضائية العديدة لتتصدع رؤوسنا بمفاخر السياسة العراقية وقدرتها على الاصلاح بين دول منبع مياه دجلة والفرات والدول الكبرى. لكن هل رأينا استغلال لهذا النفوذ (المزعوم) في زيادة قدح ماء في نهري دجلة والفرات؟
لقد وصل سوء حال ملف المياه الى ان العراقيين في الجنوب يشترون الماء المعبأ للشرب من مصانع في الكويت والسعودية التي لا انهار كبيرة فيهما. والوسط يشترون ماء اقل جودة بكثير ومن مصانع محلية. اما الماء المجهز للبيوت فاغلبه مختلط مع مياه المجاري التي ترسل للأنهار ولذلك وبالإضافة الى الغلاء والتضخم ومصروفات نقص الطاقة التي يعاني منها كل مُعيل أُسرة، يثقل كاهل العراقي بميزانية إضافية لنصب محطات صغيرة لتنقية المياه في بيته. ورجوعا للواقعية السياسية نتساءل: هل هناك مصارحة مع الشعب العراقي لما يدور في اروقة السياسة الخارجية بخصوص موضوع المياه، وما هي التحركات المستقبلية للدولة العراقية لحل هذا الامر؟ ام ان تحدي الكرسي كل أربع سنوات هو الاهم وبعد الاربع سنوات فليذهب مستقبل ابناء العراق الى التراب!
ايضا تنعدم الشفافية الكاملة في موضوع قانون النفط والغاز والخطط المستقبلية بخصوص توسيع واستثمار هذا الملف المهم. نرى حكوميا ومن بعض المتعاطفين والمتعاملين معهم الاعلام الممنهج لتقليل اهمية النفط كمورد حالي للدولة، بينما ينبرون لتضخيم دور الغاز الروسي في رسم سياسة اوروبا وخوف حلف الناتو من ملف الطاقة. هذا التقليل من شأن النفط في ظاهره مهم لتنمية وتنويع مصادر الاقتصاد، لكن بناء على نراه من انعدام اي تحرك حقيقي وواقعي لتنمية الصناعة والطاقة والزراعة، فلا تفسير لهذا التهميش والاستخفاف بالنفط كمصدر للطاقة الا انه تخدير مجتمعي لصرف الانظار عن وجود وزارة للنفط كانت تدير انتاج النفط العراقي لعقود وفي ايام صعبة لكنها الان تعجز عن سد احتياج السوق من مادة الغاز التي تخرج بشكل تلقائي مصاحبة للنفط وتحرق هباء مع الاسف، بل انها لا تستثمر الحقول العملاقة المحاذية للحدود مع دول الجوار جميعها. وهنا سينبري متشدق اقتصادي وعارف يشرح صعوبات استخراج الغاز والقيمة الاقتصادية القليلة لاستخراج الغاز بدل حرقه كما هو معمول الان وان شرائه هو الحل الامثل اقتصاديا. وهنا يبدو أن الاقتصاديين قد عميت عيونهم عن الكوارث في ادارة الملفات الاقتصادية العراقية الكثيرة وابصرت بحدة وذكاء اهمية شراء الغاز والمشتقات النفطية المكررة بدل انتاجها محليا. ويفوت هذا العارف ان الاثار الصحية والزراعية والبيئية المترتبة من مخلفات الغاز المحروق تكلف الدولة العراقية وستكلفها في المستقبل اضعاف سعر التنقية والاستخراج. فضلا عن ان الغاز من ملفات السيادة كما كان يقول هذا العارف ويحلل في موضوع الازمة الروسية الاوكرانية. أضف الى ذلك ان المُستخرجين هم شركات نفطية عالمية عملاقة وليسوا وزارة النفط العراقية، وهذه الشركات لها القدرة على حلب النفط من الاحجار (النفط الصخري).  يجب الاشارة هنا الى ان وجود صناعة تحويلية وتحسين انتاجية للمشتقات النفطية والبتروكيمياويات، وايضا انتاجية مناسبة للغاز الطبيعي ستكون في صالح دول الجوار كما هي لصالح العراق. المقال غير مخصص لتحليل اهمية هذا الامر في الواقع الاقتصادي لدول الشرق الاوسط، لكن تكفي الاشارة الى ان التهميش الممنهج للعراق وجعله سوق استهلاكي، يشكل ربح اني قليل للمستفيدين لكنه خسارة اقتصادية هائلة لكل المنطقة، من الباكستان الى مصر، ومن جمهوريات وسط اسيا الى مالي والنيجر. قد نُفَصِل هذا الامر في دراسة منفصلة ان شاء القدير.

رسالة الى شعبي

قد يختلف معي البعض فيما سأقول، لكن عمليا وواقعاً، يجب ان تتم المحاسبة الشعبية القانونية للوزير المعني باي ملف تم ويتم التقصير فيه، وينبغي عدم توجيه النداءات لرئيس الوزراء فقط. الوزير هو قائد الملف المباشر، وليس رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية. ايضا الدعوات الغريبة لتمييع الماسي والمشاكل بالتظاهر ضد سفارات دول والتي قعت الحكومة العراقية اتفاقيات معها اضرت بالداخل العراقي هي اعمال لا قيمة لها لتحسين الوضع العراقي الداخلي، بل على العكس فهو يقلل قيمة العراقيين في نظر تلك الدول، ويعزز مفهوم السيطرة والاستغفال السياسي ويعزز الاعتقاد الدولي السائد ان الشعب يسيطر عليهم الفاسدين وان لهج لسان الشعب بالاعتراض. الحقيقة ان سفراء تلك الدول يتوقون لهكذا اعمال ويرتسم البشر والسعادة على وجوههم ووجوه عوائلهم، فراتب السفير ومخصصاته ستتضاعف كثيرا بعد كل هجوم كونه يخدم في بيئة خطرة، والملحقيات العسكرية تعتبرها خدمات قتالية لغرض ترقيتهم في بلدانهم. أضف الى ذلك ان التعمير سيتم بأموال العراقيين والتعويضات ستدفعها الحكومة العراقية على ما كان من تجهيزات وما في خيالات السفير ومشتهاه.  إذا اراد الشعب عقاب دولة فليعاقبها بمقاطعتها ماديا ومعنويا وليجبر عمليته السياسية على الرضوخ لإرادته.

رسالة الى جميع قادة الشرق الاوسط

العراق القوي اقتصاديا، والديمقراطي نظاما هو الضمان الوحيد لاستقرار منطقة الشرق الاوسط ككل وخصوصا في وجود القطبية الاقليمية، وذلك لتمازج المتباينات الأيدلوجية وانصهارها فيه، وايضا امكانيته الزراعية والصناعية لتوفير احتياجات الاسواق الاقليمية، بل وحتى الاوربية بما يضمن نمو اقتصادي متسارع ومتكامل لمنطقة الشرق الاوسط واوروبا وخصوصا الجهة الشرقية، وكذلك توفر خامات مهمة زراعيا وصناعيا لكل دول العالم. المناخ والجغرافية العراقية تجعل منتجاته الزراعية فريدة من نوعها وكذلك انبساط ارضه تجعل نقل المنتجات امر ذو كلفة واطئة. لغويا، يمتلك العراق لغة حوار تمتد من جمهوريات روسيا الاتحادية شمالا الى شمال افريقيا جنوبا ومن بحر اليابان شرقا الى البرتغال غربا، وهذا يعزز التمازج بين الاسواق والثقافات. أضف الى ذلك، الملايين من الجالية العراقية التي تعيش في امريكا الشمالية وذات الاتجاهات الفكرية المختلفة، والتي تمتلك تراكم خبرات في شتى المجالات الاقتصادية والثقافية والصحية. 
نحن نرى هشاشة المنطقة، بل والعالم امام الازمات العالمية واخرها الازمة الروسية الاوكرانية الحالية. فكم كان سيشكل النشاط الصناعي والزراعي العراقي متكاملا مع النشاطات الاقتصادية الاقليمية لبديل عالمي مهم لمتطلبات المنطقة من المأكل والملبس والخامات. في وعالمنا المعاصر وبدون دور العراق المزدهر كمرتكز بين القوميات الثلاث الكبرى عالميا، لن تستقر بلدان تلك القوميات ولا أوضاع وبلدان أي قوميات أخرى في المنطقة. اثبت العراق على مدى الالاف من السنين انه المركز الوحيد الذي يستطيع جمع القوميات وتذويب الاختلافات ورسم استقرار اقتصادي وأمني في منطقة الشرق الاوسط. وهنا أقول مجددا ان الشعب العراقي يتعرض لمحاولة اغتيال منهجية، لكن فات من يقومون بها انهم يغتالون أنفسهم بتلك المحاولة. ان هذا المقال هو نفخ في صور التحذير للاستيقاظ من السبات والغفلة... فاستفق ايها الشرق الاوسط. استفق بكل مكوناتك ومذاهبك الفكرية والرمزية. استيقظ قبل ان ينهار العالم بأجمعه فالشتاء قادم.