رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. مصدق العلي يكتب: ممارسات الحكومات العراقية بين ابو الاريل والتلاعب بالسلة الغذائية

نشر
الأمصار

لطالما تعلقت انظار العراقيين خلال السفر بين المحافظات العراقية بعد عام 2005 وحتى خلال تنقلهم داخل المدن الثلاث الكبيرة (البصرة, الموصل والعاصمة بغداد) بمشهد الجندي الذي يحرك ساقيه وقوفا لكي يقوم بعملية " شحن كارت" جهاز كشف المتفجرات " ابو الاريل" الذي امتلئ به العراق. 
هذا الجهاز الذي حير المهندسين في عموم العراق الى درجة عقد ندوات حوله في كليتي الهندسة في الجامعة الأم لتنبه الناس ان هذا الجهاز الخارق ما هو الا خرافة يستند لها "العارفين" ولا اساس علمي او نظري لألية عمله. الخرافة هنا بمعنى ان الجهاز يُعتَقَدُ بعمله فقط من قبل قادة الوزراء والجهات المعنية في وزارتي الداخلية والدفاع ( كما شاهدنا في  مئات المقابلات الاعلامية) وكذلك في كلام الجنود الذين يثقون بما تقوله لهم سلسلة المراجع العسكرية.
اتذكر النقاش الغير المجدي مع أحد مسؤولي حماية أحد رؤساء الوزراء حول ان هذا الجهاز لايمت للعلم ولا للمعقولية بصلة. حيث ان هذا الاخ في الانسانية، بعكس كل الدلائل والبراهين والعلم والمنطق كان يُصر ويؤكد ان الجهاز يشير الى وجود سلاح في العربات او محمول من قبل الاشخاص بدوران "الاريل" نحو مصدر التهديد في مرات عديدة وان أخطأ في بعض الاحيان. لكني اتذكر ان نفس رئيس الوزراء الذي يحميه هذا الاخ في الانسانية قد قال في معرض ثنائه المستميت على الجهود العظيمة في اتمام صفقات جهاز "الاريل" المتكررة بقوله ان الجهاز يكشف 50% من الحالات المطلوبة, وفات معاليه انه لو أمر الجندي ان يستعمل عملة معدنية ويلعب ( طرة - كتبه) لكانت نسبة النجاح في كشف الخروقات الامنية مشابهة في نتيجتها لمن يحمل نفس جهاز كشف المتفجرات والاعتدة (ابو الاريل) الذي استوردته الاجهزة الامنية المعنية بمبالغ خيالية حسب ما أورده الاعلام المحلي والعالمي.
مرت السنين وسمعنا عن سجن مصنعي هذا الجهاز من الاجانب في بلدانهم الاصلية بتهمة الاحتيال وان هذا الجهاز الذي لا يتجاوز سعره 25 الف دينار عراقي والذي لا يعمل مطلقا، قد بيع لبلدان في الشرق الاوسط واوربا الشرقية والمكسيك والباكستان تحت عناوين كثيرة لتفيذ مهام متنوعة. لكن من اغرب ماكتب عن هذا الجهاز كان في تقرير البي بي سي المفصل عن نتائج المحاكمة التي قامت بها بيريطانيا (وليست الحكومة العراقية) والذي يشير في ثناياه الى اهدار 111 مليار دينار عراقي على هذه الاجهزة المزيفة. مع هذا المال المهدر، والذي لا قيمة له مقابل اهدار دماء الالاف من العراقيين بين شهيد وجريح، ومعاق, ومع امتزاج دم العراقيين (الذي يبدو انه رخيص لمتسنمي هرم السلطة) مع اهات الامهات وبكاء اليتامى, لم نرى محاكمات علنية ومحاسبة حقيقية واقتصاص قانوني يتناسب مع صرخة أم وهي ترى ابنتها مسجاة في احدى مجرات ثلاجات الطب العدلي وهي محترقة الثياب بعد سقوطها في انفجارٍ امام مدرسة. 
هذا الجهاز الذي وصل سعره لمبالغ خيالية تعدت ال 5000 دولار للجهاز الواحد، ادى الى بناء سيطرات شلت العاصمة اقتصاديا وامنيا وبعثر مركزية القوات الامنية وشتت قواها الى درجة خطيرة. شهد العراق في ظل هذا الجهاز مئات الانفجارات والعمليات الارهابية. وبعد ان ثملت شوارع بغداد ومدن العراق من شرب دماء ابنائها، امر رئيس الوزراء الاسبق بسحب هذا الجهاز والذي يوصف بانه وصمة عار في جبين تشكيلات الامن والدفاع  ما بعد 2003 لكن مازالت الاستراتيجية الامنية التي بنيت حوله قائمة الى يوم كتابة هذا المقال!
اعلم علم اليقين ان في وزارة الداخلية والدفاع متخصصين في مجال كشف المتفجرات  فالحروب الطويلة المتعاقبة, قد صنعت ثروة من الخبرات و الحصيلة العلمية والعسكرية في اجهزة الامن والدفاع والداخلية العراقية, ومنهم من تسلم مناصب ... بل هم من اعادوا بناء الاجهزة الامنية والجيش بعد سقوط النظام عام 2003.ولهذا يشاركني الملايين التساؤل عن سبب السكوت لوقت طويل عن هذه الجريمة البشعة بحق الملايين من العراقيين من قبل المختصين في هذه الوزارات المعنية؟
يبدوا ان التاريخ يعيد نفسه بطريقة ساخرة, وبعناوين متنوعة, لكن بدل الخروقات الامنية الان , يتم اغتيال ماتبقى من الشعب العراقي اقتصاديا. يمكن مشاهدة واحساس ذلك بصعود سعر المواد الغذائية وشبه انعدام مفردات الحصة التموينية في الداخل العراقي رغم وجود برنامج كامل ومستمر لدى وزارة التجارة يعود لما قبل عام 2000 حددت فية نسبة احتاجات الفرد من السعرات الحرارية والمواد الاساسية, ويتم صرف مبالغ مهولة لها في الموازنات السنوية العراقية. اقتصاديا, شهد المشهد السياسي العراقي زلازل من تصريحات وزراء المالية والنواب, ادت الى هز الثقة في العملة المحلية وتهرب المواطنين من عمل الادخار الداخلي مما ادى لاصدار انواع جديدة من العملة النقدية كحيلة اقتصادية لضخ العملة المحلية وبذلك ازداد التضخم. كذلك حصل دمار شامل في ثقة الجهات الاستثمارية الاجنبية في السوق المحليه نتيجة لتلك التصريحات مضاف اليها عدم ثبات العملة مقابل العملات الاجنبية وكذلك عدم وضوح ومصداقية سياسة الدولة بخصوص سعر الفائده للعشر سنين القادمة. 
لا يمكن لكائن فضائي ان فَقَهَ ما قيل في جلسة النواب العراقي في حديث "العتاب" مع وزير المالية الذي بان كأنه تحت تاثير سحر سحرة الفرعون, ان يقبل هذه المهزلة في اغلب حديث المستجوبين وايضا اجوبة الوزير ومن تجلس بجواره.واسفي الاكبر على النواب الذين يبدوا من اسئلتهم وتعليقاتهم انهم لا يملكون مسودة مشروع اقتصادي حقيقي. يبدوا ان فكر بعضهم هو: لننجح في معركة الصندوق وبعدها "الله كريم"!
ان الشعب العراقي قد فقد الثقة بأي قرار او معلومة تصدر من الحكومات العراقية المتعاقبة، فهو يبرر عدم الثقة فيما يراه من الواقع الذي يعيشه بلده الذي هو اغنى بلد في المنطقة من شبه انعدام للبنى التحتية والخدمات الاساسية، وكذلك انباء الاغتيالات والاحداث الامنية رغم امتلاء الشوارع بالقوات الامنية , بل وحتى الاخبار والاقاويل الغريبة والتي يتادولها السياسيين في تسقيط خصومهم الى اسفل سافلين ثم نكوصهم ومدحهم المبالغ به لخصومهم في الامس وحلفائهم اليوم.  
يبدو ان كل ما يعانيه الشعب العراقي هو بسبب انعدام الشفافية. نعم, فرغم ان اغلب جلسات البرلمان علنية لكنها معدومة الصوت في بعض الاحيان, اما التقارير والميزانيات فلا نراها تصل للمواطن بطرق رصينة من مصادر حكومية. يبدوا ان المواطن الذي يسيل دمه ويُسرق رغيفه ويبكي ابنائه خوفا من المستقبل الغامض غموض النشاطات الحكومية ,قد فقد الثقة بالحكومة قبل مجيئها. لا شفافية، ولا احصائات واقعية ولا تقارير معلنة, بل وحتى الاتفاقيات التي يتغزل بها البعض, لا نعلم عنها شيء غير صور في السوشيال ميديا , قد تكون من وحي الخيال اكثر منها نصوص من عقود ورسوم من مسودات خطط لمشاريع. لكثرها لا نعلم عدد المرات التي خرج فيها العراق من البند السابع على مر السنين العشر المنصرمة في الاعلام العراقي حسب الابواق السياسية.  لو علم المواطنون بشفافية بكوارث ادارة وتنفيذ الموازنات وتخبطات السياسي و قراراته اللامسؤولة من خلال المصادر الرسمية لقوموه ولأتوا بمن يستحقه العراق في ادارة المشهد السياسي للخروج من هذه الازمات الكارثية. وفي الحقيقة ان هذا الامر ضمان لمستقبل هذا المسؤول السياسي ومستقبل ابنائه ووطنه ومشروعه وعقيدته السياسية، لكن يبدو انهم ليسوا بسياسيين بل عارفين ومدعين للسياسة ليس الا. 
العراق القوي اقتصاديا، والديمقراطي نظاما هو ضمان لاستقرار المنطقة في وجود القطبية السياسية الاقليمية, وذلك لتمازج المتباينات الايدلوجية فيه, وكذلك امكانيته الزراعية والصناعية لتوفير احتياجات السوق الاقليمي بما يضمن نمو اقتصادي متسارع لمنطقة الشرق الاوسط ككل, وكذلك توفر خامات مهمة زراعيا وصناعيا. فنحن نرى هشاشة المنطقة امام الازمات العالمية واخرها الازمة الروسية الاوكرانية الحالية، فكم كان سيشكل النشاط الصناعي والزراعي العراقي متكاملا مع النشاطات الاقتصادية الاقليمية لبديل عالمي مهم. 
ان الذي يحصل هو حكم بالإعدام والشطب، ليس في حق الشعب العراقي، بل في حق من يستقتلون في تدعيم الممارسات السياسية الخاطئة في الداخل العراقي. مهما طالت او عرضت، لا مقام لقداسة او هيبةٍ أمام قداسة  دم الملايين من العراقيين. لن تدوم قوة قوي طويلا، وان اخذه الغرور والزهو بالنفس. السؤال هنا, ماذا سيفعل داعمي الفساد الاداري والامني الحالي في العراق (المحليين منهم والاقليميين) امام غضب العراقيين؟  
هل يعتقدون ان تحريك اللسان بمقولة " ماادري" و "نحن لا ندعم الفاسدين " ستنقذهم وما يحملونه من فكر من ردة فعلِ من فقدوا الامل في العملية السياسية العراقية؟
يبدو ان التاريخ سيعيد نفسه مع الاسف.