رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

عمرو عبد المنعم يكتب: كواليس «قاع إسطنبول السري».. قراءة في رواية علي الصاوي (2/2)

نشر
عمرو عبد المنعم
عمرو عبد المنعم

في قاع مدينة "إسطنبول"  السري نرى أزمة اعلام ما يسمي المعارضة فى الخارج، وهو ما نستطيع أن نطلق عليه جنس الرواية وعمقها الداخلي ويخلق أصالتها الأسلوبية، وتركز علي بطلها "غانم بركات" السياسي المغامر (السياسي الوصولي البارع – السياسي المقامر – رئيس نادي الكبار السياسي فى إسطنبول ) الذي فقد بريقة بعد أن كان نجم المعارضة فى وقت من الأوقات،  فقد إنسانيته وقدرته علي التماسك المجتمعي والقدرة علي الجذب السياسي، فتحول إلي مجرد لاعب فى الوقت الضائع لأثبات وجودة ومكانته فقط ، وهي إحدى التيمات الرئيسية في الروية ومأساة الشخوص الحقيقية فى هذه الرواية، والتي لم تكتف بانطباع واحد أو موقف بعينه بل اتسعت لانطباعات وقدمت شخصيات متنوعة ومتشعبة تستدعي عذابات جيل بأكمله . 
تتخذ الرواية منحي صاعداً ثم هابطاً بحدة، مستخدما بطلها "غانم " وأبطال آخرين، وهي سمات مميزة للنص الواقعي للرواية بشكل عام ، فقد خلق منها حالة من الخصوصية لتجربة جيل من الشباب خرج مرغماً ظنا منه أنه  سيهاجر إلى أرض الأحلام وسيجد الحرية والديمقراطية ودولة الخلافة المزعومة فى " اسلابول"  ففوجئ بعكس ذلك تماما، فوجد نفسه أمام تحديات أكبر من فهمه وقدراته العقلية الفكرية. 
تستحضر واقعية الصاوي الحياة فى  قاع المدينة الصاخبة  بكل حضورها، وتبددت مقدرته فى أقصى تكثيف ممكن للمحتوى والذي يتضمنه الجوهر الاجتماعي والإنساني  داخل هذا المجتمع التركي بكل تناقضاته ، عبر تحولاتهم الفكرية وتصوراتهم العقدية والأيديولوجية ، فقدمت رؤية نقدية لشبكات العلاقات التي تجمع بين البناء الدرامي المختلفة وحقيقة ما يحدث على الارض . 
انتهت الرواية كما بدأت فى مدينة "بشكتاش" إحدى بلديات مدينة إسطنبول الحيوية ذات النمط الأوروبي، والتي تحتوي على العديد من الأحياء الراقية، لتحمل لنا الشيء ونقيضة وعملية التحول السريع في الشخصيات مصحوبة ببناء زمني سريع يتيح لنا التجول ما بين الزمان والمكان بحرية  كبيرة ومتلاحقة . 
تناقضات إنسانية خلف الرجل الكبير
من خلال أنماط الشخصيات الرئيسية والثانوية للرواية تتكشف تناقضات الوجود الإنساني، الإنسان بأشواقه وعذاباته، وهي بنية مركزية فى النص لتظل محورية الشخصيات  هي دائرة  اهتمامك كقارئ،  تتحرك بشرائحها المتنوعة فى فضاءات واسعة محملة بأزماتها الحياتية واوضاعها المختلفة ، ويستدعي الصاوي هنا شخصيات مرجعية واقعية يحال عليها ، تتراوح ما بين التاريخ والاسطورة والرمزية الخيالية وبعض الشخصيات الخرافية ليهرب من المسائلة القانونية .
فمثلا  "راغب السوركي" رجل الأعمال المسيطر على جميع التيارات فى اسطنبول تقريباً، والذي تحول من الفضيلة إلى عالم القطط السمان ، الرجل الكبير او القيادة العليا ، ثم "مؤمن الزيات" الصحفي المغلوب على امره ، ولوبي إسطنبول المكون من "حسين فوزي" و"ماجد الدسوقي" و"مدحت سليمان" ،  وكذلك "مني حبور" الإعلامية القريبة من "غانم بركات" الشخصية الرئيسية للرواية والتي تنتهز الفرص لتلعب الأدوار فى السيطرة والنفوذ . 
أدوار رجال الأعمال المشبوهة فى لعبة السرد  الروائي  مثل شخصيات "فارس بك"  و"جلال مطير" ، لتترك لنا تماس مع عالم المال والأعمال الذي لا يخلو أي مجتمع من وجوده مصحوب أحياناً بفساد مالي وإداري ، كما لا تخلو الرواية من شخصيات مضيئة لعب الصاوي علي ابرازها ولكنها ضعيفة غير مؤثرة فى السياق القصصي والروائي.
ربما كانت "صفاء الهادي" زوجة "راغب السوركي" الجانب المضيء فى الرواية ولكنها تلعب دائما فى الوقت الضائع وتتدخل وبعد فوات الأوان ،فعندها قدرة على الثابت علي المبادئ وبقيت زوجة أصيلة رغم  خيانات زوجها المتعددة.
واختيار الأسماء له دلآلة وسط هذا العالم ، وهذا ظاهر  أيضا فى اختيار اسم "طلبة عصفور" فيبدو انها كثيرة ومتعددة فى هذا العالم الخفي فختار لها دلالة اسمية اكثر من السردية فطلبة تعني (الشخص الذي تحت الطلب في اي وقت) والعصفور(أي الشخص الذي ينقل جميع أخبار الزملاء للمدير)  ، حتي ناتي إلي "أيوب صابر"  الذي حمل أفكار الجماعة  فانتهت به إلي الاضطراب الفكري، هو تعبير عن جيل كبير من الشاب فى هذه  الواقع، فالشخصيات فى الحقيقة تعبر عن افكارها بحرية مطلقة قبل الدخول فى الحبكة الروائية والقصصية . 
رسائل الرحيل المأساوي لأيوب
الرواية صدمتنا برحيل "أيوب صابر" المأسوية بدون علاج لخطه الفكري، وترك رسلة أو بالأحرى تركت لنا رسالة مفادها " لا تظنوا أنني انتحرت أو ألحقت الأذى بنفسي عبثاً، بل لقد رحلت واسترحت وتلك نهاية حتمية لأمثالي ضحايا عبث الأخرين ومكرهم ، فلا يخشي الموت من كان يموت كل يوم " ص(39)
لعبت الرواية علي فضح أدوار المشايخ ومن يتسترون بلباس الدين وهذه المرة مشايخ الجماعات علي وزن مشايخ السلطان، ونقلت الروية شخصية الشيخ "درويش امام" والذي يظهر علي فضائيات يفتي فى الدين، فيروي علي لسان أحد ابطاله اسطورة "سيزيف الإغريقية"، عندما عاقبته الالهة بحمل صخرة كبيرة  يصعد بها إلي الجبل ، وكلما وصل إل نهايتها سقطت الصخرة وانحدرت إلي قاع الوادي ، فيعود ليرفعها من جديد ، وظل هكذا حتي اصبح رمزا للعذاب وهي رمزية لوضعية الجماعة وادعائها المظلومية عبر التاريخ الحديث، فما ان تصعد حتي تهبط وتقول مؤامرة خيانة انقلاب،  وهي علي لسان شخصية "أيوب صابر" والذي صرخ قبل انتحاره  وقال لهم  "ويلكم ماذا احدثتم فى الدين وفىنا ؟". ص (83)
ورسالة اخري من "سماح صادق"  زوجة "غانم بركات " حين قالت " كم تمنيت أن يطول عمرى لأراك وحيدا منبوذا من الجميع، وتجني ثمرة حصادك المر، لم يكن لك يوما وجها واضحا يعرفك الناس به، تحتال بكل الوسائل كى تصل إلى هدفك، تساوم بكل شيء تملكه، أتذكر حين تاجرت بى من أجل مصلحة لك عند بعض أصحابك، ما كنت أعرف أنك عديم الشرف ساقط المرؤة، كنت أداة في يدك تلعب بها متى شئت، والأن تعيش وحدك وستظل وحدك وأيضا ستموت وحدك ". ص(169)
والرسائل نجدها في شخصية  "راغب السوركي"  يعبر عن ذلك بقولة "نحن نعيش بالقشور بعد ان تعفن اللباب من الداخل"(13)
نجد ذلك الصعود فى استغلال عالم النساء تحت ستار الاعلاميات الوصوليات والتي دفعها السقوط والتجرد من المشاعر والحب والعاطفة واستبدالها بالمال والنفوذ والوصولية. ص(24)
حقيقة أوضاع الشباب  بعمق وما وصلوا إليه من ضياع فقد هاجروا يحدوهم الأمل و أن يكونوا ذا شان كبير فى المستقبل، فدفنوا فى مقبرة الجماعات من حيث ظنوا أنهم يحيون حياة كريمة، فكان عزائهم الوحيد هو الهرب خارج مصر لعلهم يجدون طوق نجاة أخير ينقذهم من غرقهم المحقق ، لكن  الهجرة كانت كاشفة لمن ظنوا أنهم قادة وقدوة ، فقتلوهم مرتين ، مرة حين غرروا بهم وألبسوهم عمامة الوهم ، والمرة الثانية حين خلوهم فى ارض مضيعة وهوان. ص(29)

لا تكونوا كقطيع بانورج!
ونقل لنا الكاتب قصة  مقتبسة معبرة جدا عن حالة ثقافة القطيع في اروقة اسطنبول الإعلامية وهي قصة للكاتب الفرنسي "فرانسوا رابلي" لرجل يدعى "بانورج" (Panurge) كان في رحلة بحريّة على متن سفينة، وكان على نفس السفينة تاجر للاغنام يدعي "دندونو" ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها. 
كان "دندونو" تاجرا جشعا لا يعرف معنى الرحمة، ووصفه الاديب الكبير رابلي  ( (Rabelais بأنه يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية. 
حدث أن وقع شجار على سطح المركب بين "بانورج" والتاجر "دندونو" صمم على أثره "بانورج" أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة. 
وفي مشهد غريب يمسك "بانورج" بالخروف من قرنيه ويجره بقوة إلى طرف السفينة ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره، ليلحقه الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في "طابور مهيب" لتمارس دورها في القفز.
جن جنون تاجر الاغنام "دندونو" وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل،  تخيل معي فقد كان "إيمان" الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم،  وبدافع قوي من الشجع اندفع "دندونو" للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملا فى إنقاذه من مصيره المحتوم، إلّا أن الخروف "المؤمن" كان مصراً على الانسياق وراء  بقية الخرفان، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا معاً غرقا. 
ومن هذه القصة صار تعبير "خرفان بانورج" (moutons de Panurge) مصطلحا شائعا في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين، وهذا  أخطر ما فى هذا المجتمع  وهو تنامي روح الخرفان أو روح القطيع لديهم .ص (73)
حقيقة قادة المعارضة في الخارج.. سؤال مفتوح
الرواية لم تضع حلولا لازمة ما يسمي إعلام المعارضة و حقيقة استغلال الدين فى السياسة ولكنها كاشفة لحقيقة ما يدار برمزية كبيرة وواقعية لم تخلو أحيانا من المبالغة، وفي النهاية علي لسان "مؤمن الزيات" يقول : "مازال الطريق طويلا حتي تسقط هذه العصابة المجرمة فى حق الشعوب والاوطان ما حدث هو الجزء الأول " الذي كشفه الروائي علي الصاوي فى روايته السابقة "إسطنبول 2020" ويستكمله في العرايا  . 
رواية علي الصاوي الجديدة " عرايا فى اسطنبول" عن الدار البحرينية المصرية، وتصميم الغلاف للمبدع حسين جبيل تكشف خبايا ذلك العالم السري المضطرب، وتضع الجماعة فى إسطنبول أمام سوءاتها،  العمل يستحق أن يجسد علي الشاشة من خلال عمل درامي هادف ، ليكشف لنا المخبوء والحقيقية،  و يجيب علي التساؤل لماذا لم يعلن "غانم بركات" حتى الآن نهاية مجموعته، ولماذا لا يعلن اعتزال السياسة ويذهب إلي مكة المكرمة يعيش بقية حياته يبكي علي خطيئته ويربي أحفاده، ولكنه بدلا من ذلك يخفى فشله وفشل الجماعة التي تضعه علي فوهة البركان!
يقول مؤمن الزيات " بطل الرواية الحقيقي حين يقول " لم أر فى إسطنبول إلا فضلات وطنية، وشخصيات قاءها الزمن لم أري إلا الرخيص الذي يبرق من الخارج كأنه ذهب لكنه مجرد طلاء يخفى وراءه معدن من صفيح"(17).