رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

د. خالد عكاشة يكتب : الأزمة الأوكرانية .. ومواقع اللاعبين الجدد

نشر
الدكتور خالد عكاشة
الدكتور خالد عكاشة

وصف الرئيس فلاديمير بوتين السلطة الحاكمة في كييف، والمنتمين للقومية الأوكرانية الذين يمثلون أغلبية الشعب الأوكراني (77%)، بأنهم نازيون جدد فيما بدا ليس زلة لسان أو ما شابه، بقدر ما يوحي بمضيه في استحضار الموروثات التاريخية والتي بدأها في فصول الأزمة الأولى، قبل الاجتياح العسكري.

 خلالها وجه انتقادات حتى لقادة تاريخيين روس باعتبارهم ارتكبوا أخطاء جيواستراتيجية، ابان الحقبة السوفييتية تسببت في ظهور الدولة الأوكرانية على الصورة التي عليها الآن.

ما يمكن اعتباره حصاد أولي لأيام معدودة منذ اختارت روسيا اللجوء للحل العسكري الشامل، في خلافها مع جارتها الدولة الأوكرانية ومن وراءها "حلف الأطلسي" ومنظومة الاتحاد الأوروبي. أن مطالب الأمن المتكافئ التي طرحتها موسكو قبيل الغزو العسكري، والتي بدت بالمناسبة منطقية ومقبولة للكثيرين من المعسكر الآخر، قد توارت عن صدارة المشهد لصالح الحديث عن هدف مراوغ آخر، وهو اعادة رسم الخرائط والولاءات بواسطة التدخل الخشن واستخدام القوة المسلحة. المراوغة تمثلت هنا في تنحية التوافق، لصالح قياسات المدى الذي يمكن أن تصل إليه أرتال الآليات العسكرية ومقذوفات الصواريخ المتوسطة وطويلة المدى، مع ربط انجاز تحقيق الأهداف بحجم التدمير المصحوب بتحطيم الارادات. هذه تبدو مهمة صعبة ومعقدة حمل بها الرئيس بوتين الجيش الروسي، أو يمكن اعتبارها اختيارا لطريق محفوف بمخاطر عدم الوصول. خاصة أن العمل العسكري شمل كامل مساحة اوكرانيا بحسب ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية، باستهانة فيها الكثير من التعجل لما يمكن أن تلاقيه القوات الروسية على جانبي هذا الطريق الذي زاغت عنه الأهداف الأولية.

لهذا ظل الانحياز للسيناريو المحدد الهدف باسترداد كامل مساحة اقليم الدونباس مثلا، وضمانة السيطرة واستقرار وضع الجمهوريتين اللاتي اعترفت بهما روسيا عشية العمل العسكري الشامل، يحقق لمعادلة الأمن الروسية فضلا عن الانجاز السياسي في مواجهة الخصوم فرصة أكثر عقلانية. لكن هذا الهدف الذي بدا سهل التحقق لم يكتمل خاصة وأن القوات على الأرض كانت أعينها على كييف العاصمة، فتفرغت لاحراز تقدم واختراق سريع وضع هذا الخيار خلف ظهر القوات الروسية، التي كانت تحتاج لانجاز هذا الأمر قبل أي مهمة أخرى على الأراضي الأوكرانية، باعتبار وجود ظهير من المنطق والحقوق يحمي سردية التدخل بالقوة لحمايته وتحريره، وفق الرؤية الروسية التي ترى لأغلبية سكانه من العرقية الروسية الحق في تقرير مصيرهم، هذا ما اتفق عليه وجرى ما يشبه قبوله وفق "معاهدة مينسك" التي مثلت دول أوروبية كأطراف فيها، وظل الاخفاق في انفاذها معلق في رقبة كييف حتى وان كانت الحقيقة على غير ذلك، لكن في أي الأحوال كانت خطوط الاتصال مع النظام الدولي ستظل مفتوحة في نطاق الوصول لتسوية من نوع ما. هذا لم يحدث؛ وانكشفت مساحة كبيرة من العداء والتناقض فتحت المجال أمام الطرف المقابل، الذي وجد مكونات هذا المشهد الجديد مدعاة لتصحيح تموضعه وسد العديد من الثغرات التي تعتري صفوفه.

أبرز الثغرات التي كان يعاني منها المعسكر الغربي، هي التناقضات العديدة التي شابت العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركاءها في حلف الناتو من دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية الأوروبية التي ظلت محل جدل ما بينهما طوال سنوات إدارة دونالد ترامب، مما أصاب دور الحلف بل ورؤيته لمهامه شحوب كبير لم يكن خافيا على أحد. لهذا سارعت كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا لمهمة رئيسية تمثلت في اعادة الحيوية لمفهوم "الموقف الموحد"، وهو ما نجح تجاوبا مع التسارع الروسي المقابل، حتى التردد الألماني وجد من تدافع الأحداث ما جعله يحسم أمور كثيرة ظلت معلقة لسنوات، على الأقل في تأكيد الاصطفاف بكامل قوته تحت مظلة الحلف الغربي الذي لم يكن أمامه سوى اثبات ذاته، أمام هذا الاختبار غير الاعتيادي الذي وصف بالأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. لهذا تجاوزت برلين اعتبارات شراكات امدادت الطاقة مع الجانب الروسي في مشروع استراتيجي بحجم "نورد ستريم 2"، من أجل ضمانة المواجهة من خلف حائط أوروبي أمريكي صلب، فقد مثلت تلك القضية الثغرة الأهم التي تهدد اصطفاف أعضاء هذا المحور، وبالرغم من عدم اكتمال رؤية البدائل المتاحة حتى الآن، إلا أن قرار تجميد المشروع في هذا التوقيت، عكس دلالة واضحة على حجم الادراك الألماني والأوروبي لخطورة ما يجري. 

لكن في الحقيقة الموقف الألماني تطور بصورة كبيرة، خلال أيام معدودة من عمر الأزمة وبدا لافتا أن خيارات استراتيجية تحسم على عجل في مطابخ السياسة الألمانية، فأول اعلان أوروبي بتزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية نوعية خرج من برلين على غير توقع، واستخدم الدور الهولندي لضمانة الاسراع في ايصالها إلى كييف. ليعقب ذلك ما يمكن اعتباره انقلابا استراتيجيا متكامل في عقيدة وثوابت الدولة الألمانية، منذ الحرب العالمية الثانية، أعلن عنه المستشار الألماني "أولاف شولتس" الأحد أمام البوندستاج في جلسة استثنائية ضمت فضلا عن الأعضاء، كامل وزراء حكومته وأركان الدولة، قرر خلالها أن ألمانيا ستستثمر 100 مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام. كاشفا عن خطة الدولة بتخصيص أكثر من 2% من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنويا، عبر تأسيس صندوق خاص للجيش الألماني سيستخدم للاستثمار في مجال الدفاع، ليصبح هذا القرار أول تغيير في العقيدة والسياسات العسكرية التي ظلت ألمانيا ملتزمة بها لعقود. 

المستشار شولتس الذى تلقى تأييدا واسعا من القاعة، تمثل في أكثر من وقفة تصفيق حار داعم ومؤيد لهذه الخطوات، أكمل الافصاح عن ملامح استراتيجية ألمانيا الأمنية بالتأكيد على أنه من الآن فصاعدا سيستمر هذا التوجه الجديد بل وسيتطور سنويا. وهذا يضخ دماء هائلة في شرايين ليس "حلف الناتو" فحسب، بل ربما يحدث انقلاب كبير في المحددات الأمنية للاتحاد الأوروبي خلال المستقبل القريب. خاصة وللمرة الأولى يستخدم المستشار الألماني عبارة تعريض "أمن أوروبا" للخطر، في اشارة للعدوان الروسي.

نقلًا عن موقع الوطن.