رئيس مجلس الإدارة
د. رائد العزاوي

روسيا وتطورات الأزمة مع أوكرانيا.. رؤية تحليلية

نشر
الأمصار

لا تزال الأزمة الأوكرانية في ازدياد ، حيث تشهد الآونة الأخيرة توترات متصاعدة بين روسيا وأوكرانيا وسط دخول من قبل حلف شمال الأطلنطي وذلك في سياق طرح أقاويل حول خطط روسية لغزو كييف إضافة إلى الحشد العسكري قرب حدود أوكرانيا وهو ما دفع المحللين بالقول بأن تلك الأزمة توشك أن ينتج عنها حرب عالمية جديدة، ولكن هذه الأزمة لم تكن وليدة الأعوام السالفة حيث عام 2014 بعد أن تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا عن طريق ضم شبه جزيزة القرم؛ بل تعود إلى جذور تاريخية، ومن هذا المنطلق تتطرق هذه الدراسة إلى عرض رؤية تحليلية حول الأزمة بين روسيا وأوكرانيا فيما يلي:

أولًا- جذور النزاع بين روسيا وأوكرانيا

تعود العلاقات المتوترة بين روسيا وأوكرانيا إلى العصور الوسطى والتي لا تزال موجودة حتى الآن فكلاهما لديهما أصول في الدولة السلافية الشرقية، وكانت أوكرانيا جزءً من الإمبراطورية الروسية التي سقطت عام 1917 وأعقاب سقوطها استقلت أوكرانيا لفترة قليلة إلا أن عادت روسيا (الاتحاد السوفيتي) باحتلالها مرة أخرى.

وإبان حقبة التسعينيات كان الصراع بين الدولتين هادئًا نسبيًا وذلك بسبب أن الاقتصاد الروسي كانت يعاني بسبب دخول روسيا الحرب في الشيشان، و في عام 1997 اعترفت موسكو رسميًا بحدود أوكرانيا متضمنة شبه جزيرة القرم التي تستحوذ عليها غالبية روسية وذلك عن طريق ما يسمى بـ”العقد الكبير”.

ولكن سرعان ما عادت التوترات مرة أخرى في الألفينيات، حيث شهدت الدولتان أول أزمة دبلوماسية كبيرة بينهما في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك أنه خلال عام 2003بدأت روسيا بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة “كوسا توسلا” الأوكرانية، وهوم ما دفع أوكرانيا اعتبار هذه الخطوة بمثابة محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين.

ومثال آخر على تصدع العلاقات بين الدولتين أنه في عام في عام 2008، حاول الرئيس الأمريكي جورج بوش، إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي، ولكن احتج على ذلك الرئيس بوتين، معتبرًا أن : “موسكو لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا” ، كما أن  فرنسا وألمانيا منعتا  بوش من تنفيذ خطته.

والعام 2014 كان ناقوس الخطر الذي دق لحرب غير مباشرة بين كلا الدولتين حيث عملت موسكو على ضم شبه جزيرة القرم؛ وذلك بسبب طرد الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الصديق القريب لموسكو من السلطة بعد قيام احتجاجات شعبية ضده بعد قراره التخلي عن اتفاق مع الاتحاد الأوروبي؛ من أجل تعزيز العلاقات مع روسيا.

أثار التدخل العسكري الروسي عام 2014 ردود فعل قوية من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حيث قيامهم بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، فضلًا عن قطع العلاقات الدبلوماسية وذلك بوقف أي تعاون عملي مع روسيا، وأيضًا قاموا بتعزيز قواتهم  بالقرب من روسيا معتبرين ذلك “تهديدًا أمنيًا لهم”.

 

روسيا
الحشد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا

ثانيًا- تصعيد جديد

ازداد التصعيد مجددًا في سياق طرح أقاويل بشأن وجود خطة روسية سرية لغزو أوكرانيا رُغم نفي الرئيس بوتين ذلك لكنه في الحيث نفسه هدد بإتخاذ إجراءات عسكرية للتصدي لتوسع الناتو نحو الحدود الروسية، وفي هذا الإطار حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن الرئيس الروسي من “عواقب وخيمة” حال غزو روسيا لأوكرانيا.

كما أنه خلال أكتوبر 2021 قامت روسيا بتعليق مهمتها في حلف الناتو وأغلقت مكتب الحلف في موسكو، حيث أن الرئيس بوتين دعا: ” دعا الغرب إلى تقديم ضمانات أمنية فورية من أجل نزع فتيل الأزمة على الحدود الأوكرانية-الروسية”.

وهنا يتضح أن مخاوف روسيا والتي دفعتها نحو غزو أوكرانيا نابعة من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ولذلك فهى تسعى إلى تأمين حدودها من القوات الغربية، واستخدمت روسيا الأداة الإعلامية للترويج إلى فكرة أن هناك غزو محتمل، وربما هنا يتم استنتاج أمرين:

الأول أن روسيا تتبع سياسة الردع والتلويح باستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف استراتيجية كالحفاظ على حدودها مع أوكرانيا علاوة على إظهارها كمركز قوة عسكرية قادر على تحقيق أهدافه ولكن دخول روسيا في حرب فعلية احتمال بعيد المدى لأنها واقعيًا لن تقدر عليه.

الثاني هو أن التهديد باستخدام القوة يساعدها  على تحقيق هدف لها وهو عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وذلك أيضًا تضمن تأمين حدودها.

 

ثالثًا- ردود الفعل الغربية حول الأزمة الروسية – الأوكرانية

كما تم ذكر سلفًا أن حلف شمال الأطلسي شريك أساسي في النزاع الروسي الأوكراني حيث

تقول شبكة “إن بي آر” الأمريكية أن : “التوترات بشأن أوكرانيا تأتي وسط تدهور جديد في العلاقات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، والتي كانت في يوم من الأيام دافئة لدرجة أن الرئيس فلاديمير بوتين طرح احتمالية انضمام بلاده إلى التحالف العسكري”.

وفي الإطار ذاته اتخذت بعض الدول الأوروبية خطوات جادة منها توصل رسالة غير مباشرة لروسيا ومثال على ذلك فرنسا والتي أرسلت السفينة الحربية الفرنسية أوفيرني D654 إلى ميناء أوديسا، رافعةً علمي فرنسا وأوكرانيا، وهي السفينة العاشرة التابعة لحلف شمال الأطلسي التي تصل إلى أوديسا في هذا العام. وتبحر في البحر الأسود اعتبارًا من 14 ديسمبر حتى 28 ديسمبر.

ولعل الرسالة التي تريد فرنسا توصيلها عبر هذه السفينة أن حلف الناتو يدعم أوكرانيا وهو الحليف الاستراتيجي لها وأن برفع العلمي الفرنسي والأوكراني معًا رسالة مؤداها أن ما يهدد أمن أوكرانيا يهدد أمن فرنسا وأمن حلف الأطلسي كله وهو ما يستوجب رد متوحد من أعضائه.

كما قام الاتحاد الأوروبي أيضًا بإصدار قرار بفرض عقوبات على شركة “فاجنر” الروسية خلال دسيمبر الجاري وهى إحدى الشركات الأمنية الروسية.

رابعًا- جوانب أخرى

غالبًا ما يكون الاقتصاد أول من يتأثر من أي صراعات سياسية أو عسكرية وعلى وجه التحديد النفط والغاز الطبيعي فالأزمة بين روسيا وأوكرانيا خلّفت أثرًا اقتصاديًا شديدًا وهو ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا؛ فلقد حطمت أسعار الغاز في أوروبا الأرقام القياسية واتهم عدد من السياسين في أوروبا وأوكرانيا روسيا أنها السبب في ذلك.

وفي هذا السياق أدلى الرئيس فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحفي بتصريحات: ” بأن بلاده تسعى لتفادي صراع مع الغرب بسبب الأزمة مع أوكرانيا”، موضحًا: “هذا ليس خيارنا المفضل،  ولانرغب في حدوث ذلك”. وأضاف: ” روسيا تلقت ردّاً إيجابيا بصفة عامة بشأن المقترحات الأمنية التي قدمتها للولايات المتحدة هذا الشهر وأن المفاوضات ستبدأ في بداية السنة القادمة في جنيف،  آملًا أن يمضي الوضع قدما على هذا النحو”.

مسردًا في سياق آخر : “إنه من غير المنصف اتهام روسيا بالمسؤولية عن ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية في أوروبا في ظل تلبية شركة غازبروم الروسية كافة التزاماتها في الإمداد، مضيفًا : “أن البلدان التي أبرمت عقودا طويلة المدى، مثل ألمانيا، لديها الآن أسعار أقل بكثير ويمكنها حتى أن تعيد بيع الغاز لجيرانها وتحقيق ربح”، مشيرًا إلى : ” أوروبا خلقت مشكلاتها المتعلقة بالغاز بنفسها وعليها أن تحلها بنفسها، وأنه يشك في أن بعض الغاز .الروسي الواصل إلى ألمانيا عبر خط أنابيب يعاد بيعه في نهاية المطاف إلى أوكرانيا”.

روسيا
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

خامسًا- محاولات غربية لتهدئة الأزمة

ثمت محاولات لتهدئة الأزمة تجلت من خلال عقد محادثات ومفاوضات وهو ما يتم توضيحه كالتالي:

  • مفاوضات أمريكية – روسية:

لقد صرّح مسؤولون أمريكيون أن هناك محادثات قد تجري في يناير 2022  بخصوص  تعزيز روسيا قوات عسكرية، وكان الرئيس بوتين في هذا الإطار دعا: ” الغرب إلى تقديم ضمانات أمنية فورية من أجل نزع فتيل الأزمة”، مشيرًا إلى “الكرة في ملعبهم ، وعليهم أن يقدموا لنا بعض الرد”، وهنا يقصد الغرب الذي يجب عليه أن يقدم ضمانات أو ردود تجعل روسيا تميل إلى الاستجابة والتهدئة، مضيفًا في هذا الشأن: “عليكم أنتم أن تقدموا ضمانات لنا، وأن تقدموها بشكل فوري الآن”.

  • مفاوضات روسية – ألمانية

اتفق الجانبان الروسي والألماني على عقد اجتماع أول يناير 2022، في سياق حل الأزمة بين الغرب وروسيا بشأن أوكرانيا، وذلك خلال محادثة هاتفية بين المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الروسي فلاديمير بوتن، حيث أكد المستشار الألماني على ضرورة “خفض التصعيد” في المنطقة، وعلى “تفعيل” آلية النورماندي، التي تضم ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا، في محاولة لتحقيق سلام دائم بين البلدين.

المستشار الألماني الجديد

خلاصة القول يمكن القول أن الأزمة الأوكرانية ليست وليدة التوترات الأخيرة بل تعود إلى جذور تاريخية ولكن ازدادت حدتها بشكل ينذر بحرب قد تكون هى الأخطر في الوقت الراهن فدوافع روسيا للتصعيد يأتي من خوفها على أمن حدودها بعد تعميق العلاقة بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلنطي، حيث تستخدم روسيا سياسة التلويح باستخدام القوة ولكن على المستوى الفعلي لم تندفع لاستخدامها لأنها تدرك جيدًا خطورة هذه الخطوة وهو ما يتضح من خلال تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين خلال مؤتمؤه الصحفي أن الكرة في ملعب الغرب لتهدئة الوضع والذي عليه أن يقدم ضمانات أمنية لروسيا وذلك يؤكد أن روسيا لن تنجرف إلى الدخول في هذه الحرب.

إن موافقة روسيا على الدخول في مفاوضات مع الجانبين الأمريكي والألماني تعكس أن الأوضاع تسير إلى التهدئة ولكن يبقى انتظار نتائج تلك المفاوضات معقودة وحينها ستتضح الصورة بشكل أوضح إذا كانت الأمور على ما يرام أن تعاود للاشتعال مجددًا.